منذ سنوات قبل الثورة، كتب المناضل عبد الحليم قنديل يطالب بخلع مبارك وحل وحظر الحزب الوطني.. وقتها اعترضتُ على المطلب الثاني مع موافقتي بالتأكيد على المطلب الأول، وقلت إنني ضد أي تحجيم أو قمع لأي اتجاه سياسي مهما كان. ولكني كنتُ وقتها شديد السذاجة، فضلا عن ضعف الخبرة السياسية، وهو الأمر الذي أدركته بعد خلع مبارك مباشرة، حيث تعلمت التفرقة بين "الحظر القمعي" لكيان سياسي و"الحظر المشروع" له.. فبينما الأول هو إجراء قمعي تتخذه سلطة طاغية تجاه كيان معارض لها، أو إجراء انتقامي يقوم به الفصيل المنتصر مع ذلك المهزوم، فإن الحظر المشروع للكيان المرتكب لإفساد الحياة السياسية هو إجراء يشبه عزل الموظف من عمله في الجرائم المخلّة بالشرف.. مع الأسف هذه حقيقة لا يدركها من أصفهم بالمثاليين الذين يطالبوننا بعدم إقصاء جماعة الإخوان وحزبها من الحياة السياسية، باعتبار أنها جماعة وطنية تمثل فئة من الشعب.. وأن أعضاءها مواطنون مصريون.. إلخ.. إلخ.. مع كامل احترامي للجميع ولكن تقبّل الآخر هو علاقة ذات اتجاهين، فعلى هذا الآخر أن يتقبلني وألا يسعى للإضرار بي، وإلا فقد انتقل من خانة الآخر إلى خانة العدو.. هنا لا يمكننا أن نعتبر أن الخلاف معه مجرد اختلاف فكري أو سياسي، بل هو بكل صراحة حرب بقاء.. وهؤلاء المثاليون سالفو الذكر لديهم مشكلة حقيقية في تقييم أفعال وسياسات الإخوان، على أساسها قاموا بتصنيف هؤلاء الآخرين ك"فصيل نختلف معه سياسيا لكننا لا نعاديه".. تلك المشكلة هي أنهم يصفون ما اتفق الثوار وأغلب التيار المدني أنه "جرائم" ارتكبتها الجماعة بأنها مجرد "أخطاء فادحة" أدت إلى "نتائج مؤسفة".. يذكرني هذا بمشهد من فيلم "المُعاقب - The punisher" عندما قتل المجرمون عائلة البطل بالكامل فقال له رئيسه في العمل: "أنا آسف لما حدث"، فأجابه: "آسف؟! هذه تقال عندما يخسر فريقك المفضل البطولة، لا عندما أفقد أسرتي كاملة". "أخطاء".. "نتائج مؤسفة".. "خلاف سياسي"؟! هل تمزحون؟! لقد كان من الممكن أن أتقبل مثل تلك الأوصاف لو لم يدخل الدم في المعادلة.. هل توظيف داخلية مبارك الفاسدة لقمع المعارضة "خلاف سياسي" أدى إلى "نتائج مؤسفة" هي چيكا والجندي وكريستي والحسيني أبو ضيف؟ هل مذبحة الاتحادية مجرد "خطأ"؟! بالله هل تمزحون؟! حسنا.. ماذا عن مطلب العدالة والقصاص ممن تورطوا في جرائم قتل بحق الثوار؟ هل توافقون على محاكمة قيادات جماعة الإخوان عن مذبحة الاتحادية التي وقعت بسبب "النفير" الذي أطلقوه لأعضاء جماعتهم ومؤيديهم لمهاجمة المعتصمين حول قصر الرئاسة؟ هذه المحاكمة لو تمت فإنها ستكون بسبب تطبيق قاعدة "مسئولية المتبوع عن أعمال تابعه" فضلا عن التحريض.. هذا التحريض الذي مارسته قيادة الجماعة بصفتها القيادية.. أي أن المتهم في حقيقة الأمر هنا هو الجماعة ممثلة في زعاماتها..حسنا.. أعطوني عقولكم.. هل توافقون على تحميل الجماعة المسئولية الجنائية وفي نفس الوقت ترفضون إقصاءها عن الحياة السياسية؟! طبعا من ينكرون من الأساس علاقة الجماعة بالمذبحة يمتنعون.. فهذا مستوى من إنكار الحقائق لا جدوى معه للنقاش.. المشكلة الأخرى تكمن في نظرة هؤلاء للإخوان باعتبار أنهم "تيار سياسي" لا "كيان سياسي"... ما الفرق؟ الفرق أن التيار هو مجموعة كبيرة من الأفراد يجمعهم فكر واحد لكن لا يجمعهم كيان موحد.. فهم موزعون بين أحزاب وتنظيمات تختلف طريقة كل منها في تناول هذا الفكر والتعامل معه.. فلو أخذنا التيار السلفي على سبيل المثال، لوجدناه ينقسم إلى أحزاب كالنور والأصالة، وجماعات كالدعوة السلفية والجماعة الإسلامية، ومستقلين.. إلخ.. أما الكيان السياسي فهو تنظيم واحد بإدارة وقوانين واحدة، ومواقف وسياسات موحدة.. كجماعة الإخوان المسلمين.. وإذا كنت أتفق بشدة مع من يرفضون تعميم الحكم على تيار بأكمله أو إقصائه كله، فإني أختلف مع من يرفضون المثل للكيان السياسي الواحد لو وقع منه ما يوجب ذلك، وإلا فلنرفض إذن إقصاء الحزب الوطني عن الحياة السياسية! قد يقول البعض: لا تأخذوا الكل بذنب البعض، ولكن حتى هذا القول مردود عليه أولا بأن الكيان السياسي -وأي منظومة ذات هيكل تنظيمي- هو بمثابة "شخص معنوي" يُعامَل كأنه فرد واحد، وثانيا بأن سكوت أي عضو من جماعة الإخوان وحزبها على سياسات وممارسات قياداته هو بمثابة إقرار ورضاء بها، وبالتالي فهو مشارك فيها بسلبيته.. في النهاية أقول إني ومن هم على رأيي لا نخالف مبادئنا المنادية بالحرية وتقبّل الآخر بمطالبتنا إقصاء الإخوان ومن شاركوهم أفعالهم عن الحياة السياسية، فالمبادئ الراقية أثمن من أن تُستَخدَم لإضفاء الحماية على من أجرموا في حق الوطن، وحقوق كل إنسان مرهونة باحترامه لحقوق الآخرين فإن لم يحترمها سقطت في المقابل عنه نفس الحقوق جزاء وفاقا.. فعلى هذا الأساس أقولها: نعم، أنا مع إقصاء هؤلاء القوم..