"ما معنى أن تفرض على أهل بلد أن يدفعوا لك مبلغًا من المال مقابل أن يحصلوا على حريتهم في البقاء على دينهم وممارسة عباداتهم؟ ما الفرق بينها وبين الإتاوة التي يطلبها البلطجي مني لأعيش في سلام؟" مثل هذا السؤال يتحمل مسئولية الفكر الخاطيء الذي ينطلق منه أولئك المتشددون الذين نشروا فكرة أن الجزية فرض ديني على كل غير مسلم يعيش في بلد مسلم وأنها بمثابة العقاب له على عدم اعتناقه الإسلام.. هل تصدق -عزيزي القاريء- أن كاتب هذه السطور قيل له هذا في إحدى سنوات دراسته في المنهج الرسمي لمادة التربية الدينية؟! هل تعلم أن بعض من يحملون لقب "شيخ" يروجون لتلك الفكرة بكل حماس؟ تعال ننظر في كتب التاريخ لنتأمل بعض الحالات لفرض حكام دولة للجزية على أهل إقليم دخلته جيوشها: المصريون القدماء كانت تأتيهم الجزية من بعض أقاليم أفريقيا والشام، الإغريق حصّلوها من أهل آسيا الصغرى، الرومان اعتبروها من أهم مصادر دخل دولتهم وقاموا بجبايتها من مستعمراتهم، الفُرس كانت تأتيهم من البلدان المجاورة، الدولة العثمانية أخذتها من ال"باشويات" بما فيها تلك التي يعتنق أهلها الإسلام.. هل كانت للدين علاقة بهذه السياسة؟ ولنعود بالزمن -لا تنكر أنها تقنية فعالة للإثبات- إلى عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، نحن الآن في مدينة حِمص التي دخلها توًا جنود الإسلام بقيادة أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه.. تعال معي إلى ساحة المدينة لنسمع ما يتحدث به.. تبدو على وجهه علامات الأسف وهو يخبرنا أنه مضطر للانسحاب من المدينة لقدوم جيوش بيزنطية جرارة تريد استعادتها.. تلك الجيوش أكبر من أن يواجهها ملقيًا جنوده في التهلكة.. وها هو يعلن ما أذهل أهل حِمص "سنعيد لكم الجزية، فلا يحق لنا أن نأخذها طالما لا نستطيع حماية المدينة وإلا ارتكبنا ما يحرمه ديننا من أكل أموال الناس بالباطل.. يضرب الناس كفًا بكف مستغربين قوله ومتسائلين في مزيج من الدهشة والإكبار "هل كان الروم ليفعلوا المثل لو كانوا في نفس الموقف؟ هيهات! وننتقل لمدينة أخرى نشهد فيها مفاوضات نفس القائد العظيم مع كبارها إذ يقدمون له عرضًا "سندفع الجزية لكم ولكن في العام الذي نشارككم فيه الدفاع عن المدينة لن ندفعها" يتشاور القائد مع رجاله ويبعث بالأمر إلى الخليفة مشجعًا إياه على القبول، ويعود المبعوث بالرد بالموافقة الفورية.. ننتقل إلى مصر حيث يتناقش عمرو بن العاص -قائد جيش المسلمين- مع البطريرك بنيامين -كبير الأقباط- متفقين على الفئات المستثناة من دفع الجزية: النساء، الأطفال، الشيوخ، العجزة، رجال الدين، الفقراء ممن لا يمكنهم دفعها.. هكذا تقضي قوانين المسلمين.. ماذا نقرأ بين تلك السطور السابقة؟ أن الجزية لا تُفرَض إلا على القادرين على القتال ولا يدفعونها إلا لو تولي العرب المسلمون الدفاع عن بلادهم بدلاً عنهم ويردونها لهم إن لم يستطيعوا تنفيذ شرط الدفاع هذا.. إلى ماذا يقودنا هذا؟ أليس إلى استنتاج أن الجزية ليست إلا "مقابل حماية"؟ بلى.. بل وكانت السلطة تتسامح مع المستحقة عليهم إن أصابهم إعسار أو أصابت بلادهم نازلة مما تؤثر في حالتهم المالية، ولم تكن الجزية إلا دنانير قليلة لا تُذكَر إذا قيست بتلك الضرائب الفاحشة التي فرضها الرومان على كل حي بل وأحيانًا على الأموات! "انظر في كتب التاريخ ترى العجب العجاب! باع الناس أطفالهم ليدفعوا الجزية! هل تنكر ذلك؟" هكذا يقال كثيرًا.. ثمة مشكلة لدى البعض هي اجتزاء الوقائع التاريخية ووضع الحدث في غير سياقه الصحيح.. مسألة "بيع الأطفال" وردت بالفعل في اتفاق بين عمرو بن العاص رضي الله عنه وأهل مدينة "برقة" ولكنها لم تكن مرتبطة بالجزية إطلاقًا فحقيقة الأمر أن أهل المدينة في مفاوضاتهم مع الفاتح العظيم اشترطوا عليه أن يستمروا في ممارساتهم القديمة المرتبطة بعاداتهم وكان منها أن بعضهم كان يعتبر أن الإنجاب وسيلة لتحسين الدخل فكان يبيع بعض أبناءه في سوق الرقيق، وهي ممارسة صادمة ولكنه التزم تركهم وشأنهم طالما أن هذا هو نمط حياتهم غير المستهجن عندهم، ثم أن مثل تلك الممارسة لم تسجلها أي من كتب التاريخ إلا في تلك الحالة الشاذة. "كان المصريون محكومون من الغرباء في بلادهم.. أليس هذا بالظلم الفادح؟ كيف لإنسان أن يُحرَم إدارة شئون وطنه وأن يخضع للوصاية من الغرباء ويصبح خاضعًا لطبقة حاكمة؟" ينضم ذلك القول لعشرات الحجج التي يسوقها أصحاب نظرية "الاحتلال".. فبِمَ يجيب التاريخ؟ المتأمل في خط السير التاريخي يرى مفارقة مضحكة في القول السابق، فالمفروض أن نقتنع بأن المصريون الذين لم تكسر إرادتهم جيوش الإمبراطوريتان الرومانية والبيزنطية قد استسلموا ببساطة لاثنا عشر ألفًا من جنود العرب الأقل تسليحًا بمراحل من الدولتين المذكورتين.. هل يقبل عقل هذه الفكرة التي تحمل إهانة واضحة للمصريين واستهانة بهم؟ أولاً دعونا نتفق أن المقاومة الصلبة من المصريين لطغيان روما وبيزنطة كان يمكن أن تستمر مع العرب لولا الأمر الصريح الذي وجهه البطريرك بنيامين -رأس الكنيسة القبطية آنذاك- لأقباط بالتعاون مع العرب ومد يد العون لهم، ولو كان الدخول العربي قد أخذ شكل الاجتياح أو العدوان فما الذي كان يدفع البطريرك لتغيير سياسته المقاوِمة الرافضة لأي نوع من فرض الإرادة الخارجية وهو الرجل المعروف بقوة الشخصية والإباء والإخلاص الوطني الشديد؟ وثانيًا فإن الفاتح العربي كانت أول سياساته هي المسارعة في إشراك أهل البلد في إدارة شئونهم والاستعانة بأهل الخبرة منهم، فكانت الأمور المالية لمصر تُدار من خلال موظفين أقباط، ولم يتهم المصريون هؤلاء الموظفين في وطنيتهم ولا ولاءهم لمصريتهم.. كذلك فإن العالم بالدهاء عمرو بن العاص وخبرته السابقة بأحوال مصر يدرك أن رجلاً مثله لعلم مدى تأثير الكنيسة المصرية على رعيتها لو كان يريد قمع المصريين لحرص على إضعاف تلك الكنيسة من خلال التدخل في عملها ومحاولة تهميشها.. ولكن هذا لم يحدث، بل بالعكس كان الرجل شديد الحرص على التشاور مع البطريرك بنيامين والاستفادة من خبراته وكذلك على ترك الحرية مطلقة للكنيسة في التواصل والتفاعل مع أتباعها.. فهل هذا سلوك الطغاة القمعيين؟ وسياسة "الارتباع" التي ذكرناها في الجزء الماضي تؤكد أن العرب كان لديهم حرص شديد على مزج الدم المصري بالعربي من خلال المصاهرة.. والقاريء في التاريخ العربي خلال عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه وأزمة الحكم في نهاية هذا العهد يرى المؤرخين والمعاصرين يذكرون بعض الخارجين عليه ب"المصريين" رغم أنهم عرب مسلمون.. مما يعني أن تلك السياسة-الارتباع-قد أنتجت جيلاً مصريًا عربيًا دان بالولاء لكلا من دولة العرب المسلمين ومصر واعتبر تلك الأخيرة وطنه.. فهل هذه سياسة دولة احتلال في إقليم محتل؟ "من أين إذن أتت وقائع الظلم والقهر للمصريين والتي دونتها كتب التاريخ الإسلامي من أكثر المؤرخين المسلمين دقة وأمانة؟ ألم يقم والي مصر الأموي قرة بن شريك باقتحام الكنائس بفرسه وإيقاف الصلوات؟ ألم يفرض والي الخليفة المأمون الضرائب الباهظة على المصريين حتى ثاروا ضده؟ ألم يفرض الحاكم بأمر الله على كل مسيحيو مصر ويهودها أن يعتنقوا الإسلام وإلا قتلهم وبطش بهم؟ أليست هذه بممارسات سلطات الاحتلال؟" هذا سؤال يستحق الإجابة.. (يُتبَع) اقرأ أيضا: تاريخ شكل تاني: دخول الإسلام لمصر فتح.. أم احتلال؟