تناولنا في الحلقتين السابقتين عددا من المهن والصناعات التي توارت على مر الزمن، واليوم سنلقي الضوء على بعض هذه الصناعات التي ما زالت تُمارَس حتى الآن ولم تندثر بعد، بل وتنتشر في مصر بشكل كبير، وبالأخص في منطقة الحسين وحي الجمالية وبعض القرى. سنتطرق إلى بعض هذه الصناعات، وهي: الفخراني أو الخزّاف، وصانع الكليم اليدوي، صانع الزجاج المعشق. * الفخراني/ الخزّاف (صانع الفخار والخزف) ارتبطت صناعة الفخار منذ آلاف السنين بنهر النيل، حيث تعتمد عملية تصنيع الأواني الفخارية على الطمي الموجود على ضفاف النيل، وقد استخدمت الأواني الفخارية منذ مصر الفرعونية في الطهي وتقديم الطعام. تمر صناعة الفخار بعدة مراحل، وهي: جمع الطمي من جنوب مصر، ثم نقله عبر النيل إلى أماكن تصنيعه، وبعد ذلك يتم طحنه وتعبئته في أجولة إلى أن يقوم الفخراني بتجهيزه وتصنيعه. تستخدم ماكينة "الدوّاس" في عملية صناعة الفخار، وقد كانت هذه الماكينة من قبل يتم تحريكها بالرِجل، لكنها الآن تطورت وأصبحت تعمل عن طريق محركات آلية. ويقوم الفخراني بوضع الطين الأسواني الجاف في هذه الماكينة ويضيف إليها الماء، ثم يقوم بوضعها على مائدة خاصة تسمى "دولاب الخزف"، ويقوم بعملية التصنيع بمعاونة عدد من مُساعديه. ويقوم الفخراني بتشكيلها ووضعها في صورتها الأولية سواء كانت أواني للشرب أو الطهي أو على شكل فازات للزينة، لكي تتناسب مع الوظيفة المُعدّة لها. وبعد ذلك يبدأ الفخراني في زخرفتها بأشكال مختلفة، سواء بخطوط بسيطة أو بأشكال معينة مثل: الوردة أو النجمة أو الهرم أو الساقية، لإبراز جمال القطعة التي يقوم بتشكيلها وزخرفتها ولا بد في هذه المرحلة أن تكون يد الفخراني حساسة جدا. ثم يقوم الفخراني بتعريضها لأشعة الشمس حتى تجف، وتأخذ الأواني الفخارية مدة 15 دقيقة لكي تجف تماما. وتنعكس ثقافة البيئة على هذه الرسوم والزخارف، ففي البيئة الريفية نجد الفخراني يهتم بأشكال مثل: الساقية، والهرم، والحمام، والأشجار، لكي تتناسب مع الطابع الريفي. نأتي للمرحلة الأخيرة التي يقوم فيها الفخراني بحرق الأواني لتسوية الطين في فرن تصل درجة حرارته إلى 600 درجة مئوية أو ما يزيد عن ذلك، وقبل إدخالها الفرن يقوم بطلاء الأواني أو غمسها في أكاسيد المعادن، حتى تعطي اللون البني الفاتح أو الغامق أو الأسود. وبعد ذلك يضع الفخراني الأواني برفق في الفرن حتى يتفادى تعرّضها للحرق الزائد أو ملامستها لجدران الفرن، ويقوم برص أكبر قدر منها داخل الفرن، ويتركها لمدة 5 : 6 ساعات، ثم يخرجها بعد ذلك لتهويتها وإعدادها للبيع. يعمل صانع الكليم بشكل فردي على النول الخشبي * صانع الكليم اليدوي: تُعدّ صناعة الكليم والسجاد اليدوي من أهم الصناعات التي تتعرض لصعوبات كثيرة في مواجهة التطور السريع الحادث للمجتمع، فهي لم تندثر بعد، ولكن العاملين بها يعانون من قصور تسويق منتجاتهم. ويقوم صانع الكليم اليدوي بغزل أنواع مختلفة من الصوف أو الحرير على النول الخشبي لتصنيع الكليم والسجاد اليدوي، وقد يستغرق الكليم منه مدة تصل إلى 15 يوما، مع العمل المستمر خلال كل تلك المدة. قد يعمل صانع الكليم بشكل فردي على النول الخشبي الذي يمتلكه، أو يعمل مع آخرين بشكل جماعي في ورش أو وحدات إنتاجية تضم عددا من الأنوال الخشبية. وتنقسم أنواع الكليم اليدوي إلى: كليم الجوبلان وهو معلقات الحائط المطرزة المصنوعة من الحرير، والكليم اليدوي المصنوع من الصوف المصري، ويكون على شكل لوحات من خيال الصانع أو مستوحاة من الطبيعة. ويعاني صانعو الكليم اليدوي من مشكلات كثيرة، وهي: أن التاجر يشتري هذه المنتجات من الصانع بثمن قليل جدا، ويأتي السائحون ويشترونها بأضعاف ثمنها من التاجر، ويبيعه بآلاف الدولارات، مما جعل الكثيرين ممن يعملون بهذه المهنة يتركونها.
يقوم صانع الزجاج بتركيب وحدة إضاءة داخلها * صانع الزجاج المعشّق: الزجاج المعشّق هو عبارة عن قطع زجاجية ملوّنة يقوم صانع الزجاج المعشّق بتجميعها بواسطة أعواد من الرصاص ووضعها بتصميم معين، ثم يقوم بلحام الإطار الرصاصي ببعضه بواسطة القصدير والمكواة الكهربائية. ويستخدم صانع الزجاج أدوات معينة في قص الزجاج، وهي: الألماظة، ماكينة الحف، الشرائط النحاسية، ماكينة اللحام. يقوم صانع الزجاج بتجميع بقايا الزجاج الناتج عن تكسير زجاج بعض النوافذ أو الأبواب، ثم يقوم برسم بعض التصميمات على لوحات كرتونية لكي يقوم بتنفيذها، ثم يقوم بتقطيع الزجاج بالألماظة إلى الأشكال التي تساعده في تنفيذ الرسمة. ويستخدم صانع الزجاج ماكينة حف الزجاج في تنعيم حوافه، ثم يقوم بتلوين قطع الزجاج بألوان مصنوعة من أكاسيد المعادن، ويضعها في فرن درجة حرارته مرتفعة تصل إلى 2100 درجة مئوية، حتى يتم تثبيت اللون عليه مع مراعاة شفافية الزجاج. ويقوم بتعشيق الزجاج بعد إخراجه من الفرن، عن طريق طلاء أحد وجهي قطع الزجاج بمادة لاصقة حرارية تعمل على تعشيق قطع الزجاج بعضها البعض، ويتم ذلك باستخدام شرائط من النحاس الرقيق المرن وماكينة اللحام ثم يتركه ليجف، ويقوم بعد ذلك بتركيب وحدة إضاءة داخلها، والتي تصنع مظهرا جماليا في البيوت. صناعة الزجاج المعشّق لم تختفِ بعد، وتستخدم مشغولات الزجاج المعشّق كديكور في البيوت أو تدخل في التصميم الداخلي لنوافذ المساجد والكنائس لتضفي على المباني شكلا مميزا. وبعد أن تعرّفنا على بعض هذه المهن والصناعات نجد أن بعضها يكاد يكون اختفى فعليا، وبعضها يحارب لكي يحافظ على جذوره وسماته، وبعضها يعاني صعوبات كثيرة لمواجهة اندثاره.