أحيانا وأنا أتابع حديث بعض الدعاة عن ضرورة تجديد الخطاب الديني، وعن ضرورة العمل على تغيير سلوكيات الناس، وقبل ذلك تغيير فهمهم للإسلام.. أشعر أن المشكلة ليست في الناس والجماهير بقدر ما هي في هؤلاء الدعاة. الدعاة هم من يجب أن يتغيروا أولا، وهم من يجب أن يلتزموا بما يدعون إليه.. وإلا ضاع كلامهم في الهواء الطلق وسط موجات الأثير والفضائيات.
ماذا تقول في داعية بُحّ صوته من الحديث عن "فقه الأولويات"، ومراعاة الفقراء والمساكين، والسعي في قضاء حاجات الناس.. ثم هو لا يفوته الحج كل عام.
لماذا لا ينفق هذا الداعية تكاليف حجه (النافلة) -وربما يكون للمرة العشرين- في رعاية يتيم، أو تزويج فقير، أو إعانة طالب علم.. أو.. أو.. أو.. من مئات الأبواب المفتوحة في المجتمع لا تجد من يلتفت إليها، حتى من الدعاة أنفسهم.
قد يقول قائل: إن هذا الداعية يحج على نفقة شركات سياحية، ولا يدفع جنيها واحدا من جيبه الخاص.. وأقول له: ليست المشكلة فقط في تكلفة حج هذا الداعية أو ذاك، بل فيما يرسّخه من مفاهيم وسلوكيات بإصراره على الحج كل عام.
فالشخص الغني عندما يرى هذا الداعية الذي يحبه يسارع ليلحق بقوافل الحجيج كل عام، فإن هذا الغني عندما يريد فعل شيء يتقرب به إلى الله فلن يخطر بباله السعي لسد حاجات الأمة الكثيرة والملحة والمهمة، بل سيقتدي بهذا الداعية الذي يحبه.
وأنا أعتقد أن هذه المشكلة تقف وراءها مشكلة أكبر، وهي أننا غالبا ما نفهم الدين ونمارس التدين في إطار الفرد وليس المجتمع، مع أن الإسلام بطبيعته دين الجماعة والمجتمع، وأبسط مظهر لذلك أنك حين تُسلّم على إنسان واحد تقول له: السلام عليكم، وليس السلام عليك.
وآيات القرآن في معظمها وبصورة لافته تخاطب جماعة المسلمين وليس أفرادهم.. وفي "الفاتحة" يقرأ الإنسان حتى لو كان وحده: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِيْنُ، اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيْمَ}، بضمير الجمع.. كما أن صلاة الجماعة تفضل صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة، وفي الحديث الشريف: "أفضل الأعمال إدخال السرور على المؤمن، كسوت عورته، أو أشبعت جوعته، أو قضيت له حاجته"، وفي رواية: "إن أحب الأعمال إلى الله تعالى بعد الفرائض -لاحظ كلمة: بعد الفرائض- إدخال السرور على المسلم".. وغير ذلك من أدلة لا تحصى على "جماعية" التشريعات والأوامر الإسلامية.
لكننا في الواقع الراهن المؤسف ابتعدنا عن تعاليم ديننا، ومارسنا توجيهات الإسلام في إطار من الفردية، أشبه ما يكون بالأنانية، حتى العبادة صرنا فيها أنانيين.
البعض يعبد الله على هواه هو وليس كما أمر الله، والدليل أنه يُفضل حج النافلة على مئات الفرائض المهدرة، ولا يلتفت إليها بحجة أنها من فرائض الكفاية، أي التي تجب على الجميع أو على المجتمع ككل، وغاب عن هذا الأخ أو الداعية أنها تجب على من يقدر على القيام بها من المجتمع.
أي إذا كانت فرائض الكفاية واجبة على الجميع، ولا يسقط الإثم المتعلق بها إلا إذا قام بها البعض.. فإن المخاطَب بها هم القادرون عليها من المجتمع.. وإلا فهل يخاطب الله الفقراء بإعانة اليتامى ومساعدة الأرامل، أم يخاطب الأغنياء؟!
كان العلّامة الشيخ محمد الغزالي رحمه الله يقول عمن يُفضّل تكرار الحج والعمرة على عبادات أخرى أكثر أهمية، بحجة أنه يجد قلبه عند الكعبة، فيقول: "هذا إنسان يعبد الله على هواه"؛ رحمك الله يا شيخنا الجليل!
منذ أعوام مضت دعا أستاذنا فهمي هويدي إلى توجيه نفقات الحج النافلة لإعانة المسلمين في فلسطين وغزة والبلاد المنكوبة، وأيّده في ذلك شيخنا العلامة يوسف القرضاوي.. ونحن في مصر، خصوصا بعد الثورة وتفشي الفقر بصورة مرعبة، كنا ننتظر من العقلاء دعوات مثل التي أطلقها الأستاذ هويدي.. لكن دعاتنا انشغلوا بحج النافلة عن مصائب المجتمع..