والدي يحب رواية قصص حرب أكتوبر التي شارك فيها، وذكريات الجيش الذي مكث به حوالي سبع سنوات انتهت بالحرب فالنصر.. وأنا أحب رواياته التي تُدخلني في عالم بعيد عن جيلنا، وفي أجواء مشحونة بكل المشاعر التي حُرِمها جيلنا المسكين الذي مُني بالهزائم المتتالية على مختلف الأصعدة.. من ضمن تلك القصص حين كان في رحلة تدريبية للجيش في "سيدي برّاني" التي كانت في غياهب الصحراء آنذاك، حيث كانت منطقة شبه مهجورة لم تصل إليها الكهرباء ولا المياه ولا حتى الاهتمام من قبل الدولة بمن يقطنها، فكأنها الربع الخالي لا يعلم عنه أحد شيئا.. يتذكّر أبي حواره مع أحد البدو هناك؛ حيث كان يسأله عما يعرفه من أخبار البلد، فوجده لا علم له على الإطلاق بأن هناك حربا تدور، وأن هناك احتلالا إسرائيليا لسيناء، بل والأكثر إثارة للدهشة أنهم كانوا لا يعرفون أن البلد تحوّلت لجمهورية! هذا كان في الستينيات من القرن الماضي.. وكان ردّ الرجل الذي يرويه أبي بطريقة البدو أنهم لا يعرفون ولا عبد الناصر ولا أنور السادات، ولا كل ما يحكي عنه أبي، فقط من يعرفونه هو الملك فؤاد الذي زارهم في سيدي براني أيام حكمه و... الحبيب "روميل"!! كانت تلك الجملة من أغرب ما سمعت.. فلا رابط على الإطلاق بين الشخصين.. الأول هو من زارهم في مكانهم القصي النائي واهتمّ بهم فعرفوه.. ومن بعده لم يهتم بهم أي فرد، وبالتالي باتوا في عزلة.. الثاني كان على بُعد أميال منهم حيث كانت تدور حرب العلمين إبان الحرب العالمية الثانية، والتي كانت قاب قوسين أو أدنى منهم ومن ثم عرفوه.. أما لماذا يلقّبونه ب"الحبيب" فهو أمر غامض بالفعل؛ فرغم عبقريته العسكرية إلا أنه ليس سوى محتلّ اجتاح البلدان الآمنة وقت الحرب العالمية الثانية؛ ربما تفسيره كان لحماسة المصريين للألمان؛ لتخليصهم من الاحتلال البريطاني، ومن ثم كان بمثابة المخلّص بالنسبة لهم.. أما من بعد الملك فؤاد وروميل وحتى الستينيات فلم يعرفوا أحدا ولم يهتم أحد ممن أتى على حكم البلاد بمعرفتهم. "روميل" من أشهر الأسماء التي عرفتها الأذن العربية المتعلقة بفنون الحرب وقيادة الجيوش.. واسمه يعدّ أيقونة في فنّ التكتيك وإدارة الجيوش وتحريكها.. إيرفن روميل يعُدّ من أشهر القادة الألمان، وأكثرهم دهاء وذكاء، ويحتل في شهرته المرتبة الثانية بعد هتلر، وكان أحد القادة البارزين خلال الحرب العالمية الثانية، إذ كان قائد معارك شمال إفريقيا. دخل رومل المجال العسكري حيث الخشونة والجدية عام 1910 المولد والبدايات إيرفن رومل وُلد في 15 نوفمبر 1891 في مدينة هايدنهايم الألمانية. هو الابن الخامس لأربع أشقاء، كان والده مدرسا بإحدى المدارس الثانوية، شغف روميل بصناعة المناطيد والهندسة، وأراد أن يحقق نفسه وطموحه في هذا المجال، إلا أن والده عارض ذلك، مما جعله يغيّر مساره تغييرا جذريا؛ حيث دخل المجال العسكري حيث الخشونة والجدية عام 1910. حصل روميل على رتبة ملازم في الخامسة والعشرين من عمره، وقام بتدريب المجنّدين في سلاح المشاة بإحدى البلدات الصغيرة جنوبألمانيا. ورغم الاتجاه السائد من الأوامر وتنفيذها في الحياة العسكرية إلا أن طبيعته الميالة للابتكار وذكاءه الحادّ انتصرا على طبيعة العسكر، فاستغلها في الناحية التكتيكية حيث ظل في المجال التدريسي في الجيش يدرس أصول التكتيك الحربي للطلبة الجدد، وبدأ نجمه في الصعود، واشتهر اسمه بين الأوساط العسكرية؛ حيث صعد في العديد من الترقيات حتى أصبح رئيس المدرسة العسكرية في "باينا نوشنال"، وقام بتأليف كتاب يتضمن خططا عسكرية حربية تتسم بالكثير من الدهاء والحنكة، ووضع به خبراته العسكرية خلال الحرب العالمية الأولى. هتلر وروميل: تولى هتلر مقاليد الحكمم في ألمانيا عام 1933 ولما كان معروفا إخلاص روميل الشديد لألمانيا ولحنكته الشهيرة في أصول الحرب، قام هتلر بتعيينه على قيادة الجيش في كل من النمسا وتشيكوسلوفكيا عام 1939، وفي عام 1940 أثبت لهم أنهم أحسنوا الاختيار إذ ما لبث أن اجتاح فرنسا، وأحرزت القوات الألمانية الكثير من الانتصارات على الساحة الأوروبية، ثم أتى دور بولندا، وبدأت شرارة الحرب العالمية الثانية في الاندلاع. ومن ثم رأى هتلر في روميل القائد المناسب ليرسله إلى شمال إفريقيا؛ لمساعدة حلفائه الإيطاليين في حماية مستعمرتهم الليبية ضد الهجمات البريطانية. عيّن في منصب القائد الأعلى للقوات الألمانية هناك، وكانت مهمته إيقاف التقدم البريطاني، وبدأت سلسلة المعارك الناجحة في شمال إفريقيا التي أثبت فيها براعة فائقة في التخطيط، خاصة في مجال المدرعات، وبالفعل تمكّن من استرداد ليبيا من بين أنياب البريطانيين، واستسلمت القوات البريطانية بطبرق في ليبيا، ووقع حوالي ثلاثين ألف جندي بريطاني في الأسر، وعندها رُقّي روميل إلى رتبة مارشال عام 1942. أتاحت حمّى النصر التقدم الزاحف وراء البريطانيين إلى مصر، التي كانت مركزا للتواجد البريطاني بالمنطقة. استمرّ تقدّم روميل باتجاه مصر مكبّدا الجانب البريطاني الخسائر، حتى وصل إلى مرسى مطروح ولم يبقَ على الوصول إلى الإسكندرية سوى 150 كيلومترا بعد انسحاب البريطانيين، ومن بعدها القاهرة. بداية النهاية جاءت معركة العلمين لتشهد تغيّرا جوهريا في خط سير الحرب، فعقب سقوط طبرق، جاء خبر مشاركة أمريكا في الحرب وبالا على دول المحور، وقامت بإرسال إمداداتها إلى القوات البريطانية بشمال إفريقيا، وغيرها من إمدادات قوات الحلفاء، ومن ثم ظهر الفارق الكبير بين الإمكانيات البريطانية والألمانية، وسيطر الحلفاء على الحرب جوا وبرا، بالإضافة إلى تمكّنهم من اختراق الشفرات الألمانية وكشف خططهم، وانقلب الحال بالنسبة للجانب الألماني، ولم يتمكّن روميل من صد الهجوم البريطاني وبدأ التراجع، وعلى الرغم من ذلك وعلى الرغم من قلة الإمدادات المتاحة لروميل كان هتلر بجنونه الشهير مصرا على التوسع وإتمام الحرب حتى آخر جندي، وأمر روميل بالاستمرار وتوالت المواجهات العنيفة بين روميل ومونتجمري القائد البريطاني. حدائق الشيطان المتشابكة هو اسم يطلق على حقول الألغام التي زرعها الألمان في صحراء مطروح والعلمين، والتي راح ضحيتها الآلاف من المصريين؛ بسبب انفجار اللغم فيهم أثناء السير وهي حتى الآن تقف عائقا أمام أي مشروع تنموي في المنطقة؛ ولا أدرى السبب في عدم استغلال الحكومة المصرية الأمر كوسيلة ضغط على الحكومة الألمانية؛ للتعويض عن الخسارة المادية وخسارة الأرواح التي لا تتوقف كل يوم، فاليهود لم يتركوا وسيلة ضغط إلا واستخدموها بدعوى محارق الهولوكوست، وأشعروا أوروبا كلها بالذنب، ومن ثم كان التعويض الباهظ لهم والذي ما زالوا يحصدونه كل يوم من أرواح العرب في فلسطين.. وهي حقول ألغام غير تقليدية زُرعت في باطن الأرض رأسيا على امتداد ثلاث طبقات بحيث تزيل اللغم الأول لينفجر الثاني، وتزيل الثاني فينفجر الثالث، وقد استخدم بها جميع أنواع الألغام المعروفة في هذا الوقت، وتم تغطيتها بحيث تصبح فخاخا لصيد كل ما يقترب منها من جنود أو دبابات، وما زالت ملايين الألغام قابعة في الأراضي المصرية؛ حيث يبلغ عددها 19 مليون لغم مهددة 19 مليون روح. ألمانيا لم تعد فوق الجميع اشتدّ الإرهاق على روميل، فقرر السفر إلى ألمانيا للراحة، وفوجئ بمدى التدهور الذي وصلت له المجريات هناك؛ من الهزائم المتكررة والكوارث بحق الإنسانية التي ارتكبها رجال الرايخ.. ثم بدأ الهجوم البريطاني يشتدّ بالعلمين، وقتل قائد القوات الألمانية الذي عيّن مكان روميل، ومن ثم أمره هتلر بالعودة من جديد للعلمين، ولكنه وجد الحال في أسوأ وضع، ومن ثم اشتدّ عليه حصار مونتجمري، ولم يجد أمامه إلا الانسحاب، وبدأت المطاردة للقوات الألمانية والإيطالية، وكان الانسحاب والاستسلام التامّ عام 1943. عندما علم هتلر بأمر الانسحاب اشتدّ غضبه واتهم روميل بالخيانة، فأرسل إليه يخيّره بين أن ينتحر ويضمن سلامة أسرته، أو تتم محاكمته بتهمة الخيانة العظمى، واختار روميل أن ينهي حياته بنفسه بالسمّ. وهكذا انتهى كل الضجيج والحروب والتكتيك والقتل بزجاجة صغيرة الحجم.. لينهى فاصلا دمويا من تاريخ البشرية.