على عكس السيولة الكلامية التي تظهر على الطرفين في فترة الخطوبة، يظهر بعد الزواج بفترة قد تطول أو تقصر ما يسمى ب"الصمت الزوجي"، والذي قد تشتد حدته إلى الدرجة التي تجعل بعض الزوجات يطلقن عليه "الخرس الزوجي" والتعبير الأخير يحمل معنى اليأس من عودة الزوج إلى الكلام مرة أخرى، ويحمل بالإضافة إلى ذلك بعض معاني العدوان والسخرية. ولكي نفهم أبعاد هذا الموضوع يلزمنا العودة إلى حدود وآفاق العلاقة الزوجية، والتي يوجزها قوله تعالى: {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21]. فعبارة "من أنفسكم" تذكّرنا بحقيقة خلق حواء من آدم، وبالتالي فهي جزء منه في الأساس، يظل يبحث عنه في شوق إلى أن يلقاه، واللقاء لا يكون سكنا إلا إذا كان في علاقة زواج كما هو واضح من الآية، فالزوجة سكن وطمأنينة للزوج، والعلاقة بينها وبينه تقوم على أساس المودة والرحمة، وكلمة "بينكم" في الآية تعني أن المودة والرحمة مشاعر متبادلة بين الطرفين، وليست صادرة من طرف واحد إلى الطرف الآخر، أي أن الزوجين يقومان بواجب رعاية العلاقة بينهما بتغذيتها من الطرفين "بالمودة والرحمة". وحين يتوقف أحد الطرفين أو كلاهما عن أداء هذا الواجب، فإن علاقة السكن بينهما تهتزّ وتصبح مهددة بالانهيار. إذن فلا بد من وجود حالة تواصل مستمرة (لفظية وغير لفظية) لتوصيل هذه المشاعر بين الطرفين. والمودة في المعاجم اللغوية تعني الحب، وفي المعنى الاصطلاحي يقول الدكتور عادل صادق -الطبيب النفسي الشهير- هي اللين والبشاشة والمؤانسة والبساطة والتواضع والصفاء والرقة والألفة والتآلف وإظهار الميل والرغبة والانجذاب والتعبير عن الاشتياق. وبما أن معاني المودة تظهر في حالة رضا الطرفين عن بعضهما، فكان ولا بد أن تكون هناك مشاعر أخرى تسود في أوقات عدم الرضا، لذلك كانت الرحمة وهي تعني التسامح والتغاضي عن الزلات والأخطاء واحتواء الطرف الآخر في أوقات العسر والضيق. بعد هذا الاستطراد نعود مرة أخرى إلى مسألة الصمت الزوجي، ونحاول رؤيتها بناءً على القواعد السابقة؛ وهي: السكن، المودة، الرحمة، وأدوات التواصل اللازمة للتوصيل المتبادل لهذه المشاعر والمعاني. حين يُذكر الصمت الزوجي يتبادر إلى الذهن الكثير من المعاني السلبية؛ مثل فتور المشاعر والملل والإهمال... وغيرها، ويغيب الجانب الآخر لهذا الصمت، وهو الجانب الذي لا يحمل هذه الرؤية التشاؤمية، لذلك يمكن أن نقسّم أسباب ودوافع الصمت الزوجي إلى قسمين: أسباب ودوافع إيجابية: - معرفة كل طرف لرأي الآخر في كثير من الأمور؛ نظرا لطول العشرة. - النضج العقلي والعاطفي لكلا الطرفين، بحيث تستخدم كلمات قليلة في الحوار بينهما، ولكنها تحمل معاني ومدلولات ومشاعر أكثر عمقا وثراءً. - نمو العديد من وسائل التواصل غير اللفظي مثل النظرة الودودة أو الابتسامة الحانية أو اللمسة الرقيقة أو الحضن الدافئ أو نظرة العتاب... إلخ. - الاقتراب العاطفي والروحي بين الزوجين، لدرجة لم تعد تحتاج إلى تأكيدات لفظية. - الاقتراب لدرجة التوحّد بينهما، وبالتالي فمن المنطقي ألا يحتاج الإنسان إلى أن يكلم نفسه بصوت مسموع. أسباب ودوافع سلبية: -فتور المشاعر والذي قد يكون مؤقتا أو مزمنا، حيث تنطفئ جذوة الحب، وتصبح المشاعر باردة باهتة. - فراغ العقل لأحد الطرفين أو كليهما بحيث لا يجد (أو يجدان) مادة متاحة للحديث. - عدم القدرة على التعبير عن المشاعر سواء بوسائل لفظية أو غير لفظية، أو التعبير بلغة غير مفهومة. - الملل. - عدم وجود مساحات مشتركة للاهتمام. - تصوّر الرجل عن المرأة بأنها في مستوى أدنى، وبالتالي لا يجد مبررا للتحاور معها؛ فهو يريدها لخدمته (أو متعته) وقتما يريد فقط. - العدوان السلبي لدى أحد الطرفين أو كليهما، مما يؤدي إلى ما يسمى "صمت العناد والتجاهل". - وجود حالة اكتئاب لدى أحد الطرفين، والاكتئاب يجعل الشخص غير راغب في الحديث أو التواصل مع الآخرين بأي شكل. وحين يشعر أحد الطرفين أن صمت الطرف الآخر يُزعجه أو يؤرقه عليه أن يصارحه بذلك؛ ليعرف معنى ودوافع صمته، فربما تكون إيجابية أو سلبية، وفي الحالتين يتم النقاش والتحاور للوصول إلى صيغة تفاهم تعيد سريان معاني المودة والرحمة بين الطرفين؛ لكي ترتوي منهما العلاقة الزوجية، وتستمر ويستمر معها السكن والأمن والطمأنينة. عن موقع أون إسلام