الإنشاد الديني في مصر فن له تقدير، ليس عند المسلمين فقط ولكن أيضا عن المسيحيين؛ لأنه مرتبط بالدين، والشعب المصري متدين بطبعه، ويهوى كل ما يرتبط بعقيدته، ولذلك لا داعي لأن نتعجب عندما نجد الترانيم الكنَسية تشبه قصائد مدح آل البيت. وخير دليل على تغلغل فن الإنشاد في قلوب المصريين هو حرصهم على حضور الموالد، سواء من الأغنياء أو الفقراء، فالكل يذهب للبحث عن نقاء الروح وشفاء النفس.
الصعيد منبع الإنشاد ويعتبر الصعيد منبع المنشدين الدينيين، ومنهم الشيخ "أحمد بن برين"، الرجل الضرير الذي كان يعيش في أسوان، لكن أثره امتد في جميع محافظات جنوب الصعيد، وكل قصائده تدور حول كرامات الأولياء ومعجزات الأنبياء.
وهناك أيضا الشيخ "أحمد التوني" أحد أبناء أسيوط، ومن كبار المنشدين الصوفيين، وكذلك الشيخ "أحمد سمور" الذى ظهر فى أربعينيات القرن الماضي، وتسلم ابنه الشيخ "محمد" الراية من بعده، وواصل مسيرة والده حتى نهاية الثمانينات.
واختلفت الآلات الموسيقية التى استخدمها هؤلاء المنشدون؛ فهمنهم من اكتفى بالآلات الإيقاعية ، ومنهم من اعتمد على الناي والنقارة والصفارة .
التربع على العرش ومن بين تلاميذ "التوني" جاء الشيخ ياسين التهامي، ليتربع على عرش الإنشاد الديني منذ أكثر من 30 سنة؛ فهو سلطان البوح، وصوت الضعفاء، وواحد من أهم من رفعوا لواء الإنشاد الصوفي في مصر والعالم الإسلامي. حمل على أكتافه همّ إقامة دولة الإنشاد بكل أركانها، بعدما استخرج من بطون الشعر الصوفي ما مكنه من صنع ألحان في عقد فريد منتظم، يشجي النفوس ويطرب القلوب، ويحرك العواطف، لتهيم في لحظات من العشق الديني.
ياسين التهامي المولود عام 1949 بقرية "الحواتكة" بمركز منفلوط بأسيوط؛ كان والده الشيخ "التهامي حسنين" أحد قراء القرآن الكريم بالقرية، وواحدًا من الصوفيين، ولذلك كان للأب دور كبير في حياة الابن "ياسين"، الذي ساعده في تقويم لسانه حفظه للقرآن الكريم وإلحاقه بالتعليم الأزهري، حيث بدأ حياته بتلاوة القران وتجويده.
ترك الدراسة من أجل الإنشاد وبمرور الوقت بدأ "ياسين" يسلك طريقه إلى الإنشاد الديني، رغم معارضة عائلته في البداية، فقد ترك دراسته في الأزهر -وكان وقتها في الصف الثاني الثانوي- وتفرغ للإنشاد في موالد الصالحين، الذين تنتشر أضرحتهم من أسوان وحتى بني سويف بالصعيد. فكانت ساحات مولد "الفرغلي" ب"أبوتيج"، ومولد "الفولي" بالمنيا، و"العارف بالله" في سوهاج؛ مسارح مفتوحة استطاع من خلالها التهامي أن يقدم نفسه للناس من العامة قبل الصوفيين.
واستطاع -باستخدام آلات جديدة لم تكن تستخدم من قبل- أن يصنع لنفسه حالة خاصة، فبصحبة الناي والكمان اللذيْن تصنع نغماتهما ألحان الشجن؛ صاغ "ياسين" منهج الإنشاد الصوفي لديه، ليصبح بالإنشاد الديني منافسا لأغاني عبدالحليم حافظ وأم كلثوم.
ما أبدعه "التهامي" من الإنشاد لا يتوقف الحديث عنه إلا عند إقامة ليلة أخرى جلسات العلاج النفسي أصبح ياسين التهامي يقود جلسات العلاج النفسي بالإنشاد الديني، والتف الناس بالصعيد حوله، وصار له مريدون وعشاق يتحسسون أخباره، ويسافرون إلى الأماكن التي يقيم به حفلاته، فما إن يحل ضيفا بإحدى القرى، حتى ينتشر الخبر في القرى المجاورة قبلها بأيام، فيهيئ المغرمون بإنشاده أنفسهم لحضور الليلة، وينهون كل الأعمال التي قد تعطلهم عن الحضور، وحتى بعد أن يحضروا الليلة يظل الحديث عما جرى فيها، وما أبدعه "التهامي" من الإنشاد، ولا يتوقف الحديث إلا عند إقامة ليلة أخرى.
ووسط هذا الجو المليء بالحب استطاع "ياسين" أن يتربع على عرش ليالي الغناء الصوفي، ولكنه رفض ما يحدث فيها من العادات البالية التي كانت منتشرة بالصعيد؛ مثل إطلاق الأعيرة النارية، واحتساء الخمور والمخدرات، وهي عادات كانت سائدة في الموالد وفي حفلات الإنشاد.
الشهرة في وجه بحري وقد انتقلت شهرة "التهامي" من جوف الصعيد إلى أطراف وجه بحري، وأصبح مولد السيد البدوي بمدينة طنطا ساحة اللقاء بين "التهامي" وبين عشاقه، الذين عرفوه من خلال شرائط الكاسيت قبل أن يروه وجها لوجه، بالإضافة إلى ذلك أصبح مكان"التهامي" محجوزا بالليالي الأخيرة في موالد القاهرة، مثل السيدة زينب والحسين، ليتجمع مئات الآلاف لسماع شعر "عمر بن الفارض" و"محيي الدين بن عربي" بصوت ياسين التهامي.
استمع إلى أحد الأناشيد الدينية بصوت ياسين التهامي إضغط لمشاهدة الفيديو: