غصة كبيرة، تلك التي ضاق بها حلق "رشدي"، وهو يقود سيارته، من مشرحة "زينهم"، إلى مكتب النائب العام.. إنها مؤامرة محكمة بحق.. مؤامرة، أحكموا آخر خيوطها، عندما سرقوا جثة "أمين ضياء" من المشرحة، بهذه الخطة الانتحارية.. لقد كان "هشام" على حق.. في غياب الجثة، لا يوجد دليل واحد.. تقرير التشريح الرسمي، يقول: إن سبب الوفاة هو حادث القطار.. ولا توجد جثة لنفي هذا.. والشاهد الوحيد هو الطبيب الشاب، الذي قام بإعادة تشريح الجثة، على نحو غير قانوني.. والحادث أتلف أية أدلة مادية، قد تتواجد في القطار.. وشهادة "حاتم"، حتماً لن يأخذ بها مخلوق واحد؛ بل وسيتمّ بناء عليها، التشكيك في قواه العقلية أيضاً.. لم تَعُد هناك وسيلة لكشف الحقيقة إذن.. أية وسيلة.. وهذا يعني أن المتآمرين قد نجحوا، وتخلّصوا من خصمهم، قبل أن يكشف تلك الوثائق، التي تُدينهم.. وهذا يُشعره بالاختناق.. اختناق شديد.. لقد تخلّصوا من كل ما يُدينهم، في شخص واحد.. "أمين ضياء".. أوقف سيارته، إلى جانب الطريق، ودفن وجهه بين كفيه، وهو يغمغم في مرارة بلا حدود: - كيف يمكنني تجاوز هذا؟! كيف؟ لم يدرِ كيف يمكن أن يقاوم تآمرهم، ويكشف أمرهم!! كيف؟! كيف؟! كيف؟! أدار الأمر على كل الوجوه، وتوقّف طويلاً عند واقعة سرقة جثة "أمين ضياء".. لقد انتهت معه أدلة الإثبات.. كل الأدلة.. ولكن لا.. توّقف عند نقطة بعينها، وانعقد حاجباه في شدة، وهو يغمغم: - ما زالت هناك الوثائق.. لقد تخلّصوا من "أمين"؛ ولكن.. هل تخلّصوا من الوثائق التي جمعها أيضاً؟! تراجع في مقعده، وعاد يدرس الموقف مرة أخرى.. "أمين ضياء" توّصل إلى شيء ما يدينهم، ولهذا تخلّصوا منه.. فما هو هذا الشيء؟!! وما الوثائق التي جمعها؟! نعم.. هذه هي الأسئلة الصحيحة.. وهذا هو السبيل الأصح.. البداية.. أن يبدأ بحثه من البداية.. سيسعى خلف نفس ما سعى إليه "أمين ضياء".. ويكشف ما كشفه.. ويعرف ما الذي توصّل إليه.. هذا هو السبيل الوحيد.. اعتدل في حماس، عندما بلغ هذه النقطة، وأدار محرّك سيّارته، وهو يقول في نبرة جديدة: - فليفعلوا كل ما بوسعهم.. يمكرون ويمكر الله.. والله سبحانه وتعالى خير الماكرين. كان قد بدأ الانطلاق بسيّارته، عندما تنامى إلى مسامعه من بعيد، دوي ذلك الانفجار.. ثم أعقبته تلك الظاهرة العجيبة، التي جعلته يضغط فرامل سيارته في قوة، وهو يوقفها مرة أخرى إلى جانب الطريق، وقد اتسعت عيناه.. عن آخرهما.. * * * لوّح المسئول بذراعه وهو يهتف: تلك الوثائق تعني نهايتي سياسياً (رسوم: فواز) أأنت واثق من هذا؟! ألقى ذلك المسئول سؤاله، على رئيس طاقم أمنه، في توتّر ملحوظ؛ فشّد هذا الأخير قامته، وقال في حسم: - تمام الثقة يا سيّدي.. لقد دمّرت حقيبة الوثائق بنفسي، بعد أن وصلتني.. تراجع المسئول في مقعده، وهو يقول في عصبية: - كان ينبغي أن تطلعني عليها أوّلاً.. ثم اعتدل في حركة حادة، مستطرداً: - وأن يتمّ تدميرها أمامي شخصياً. بدت الدهشة على وجه رئيس أمنه، وهو يقول مرتبكاً: - ولماذا يا سيّدي؟! ضرب المسئول سطح مكتبه بقبضته في قوة، وهو يهتف: - حتى أطمئن إلى تدميرها بالفعل. احتقن وجه رئيس الأمن، وهو يقول: - سيّدي.. هل تراودك الشكوك بشأني؟! لوّح المسئول بذراعه كلها، وهو يهتف: - الشكوك تراودني، بشأن كل مخلوق. اتسعت عينا رئيس الأمن، وهو يقول مصدوماً: - ولكنني مشارك في كل ما حدث يا سيّدي، وأطيع أوامرك في كل ما تأمر به، و.. قاطعه المسئول بإشارة من يده، ثم أعاد تلك اليد؛ ليخفي بها وجهه لحظات، قبل أن يرفعها، ويرفع عينيه معها إلى رئيس الأمن، قائلاً: - معذرة يا رجل؛ ولكن الموقف كله يصيبني بتوتر لا حدود له. خفض رئيس الأمن عينيه وصوته، وهو يغمغم: - أعلم هذا يا سيّدي.. أعلم هذا. نهض المسئول من خلف مكتبه، ودار حوله؛ ليضع يده على كتف رئيس الأمن، قائلاً في توتر، بذل جهداً عبثياً لإخفائه: - أنت تعلم أن تلك الوثائق تعني نهايتي سياسياً، ومعظمها يعني نهايتك أيضاً، وما فعلناه لمنع نشرها، يعني نهايتنا جنائياً أيضاً، وهذا أمر بالغ الخطورة. لم يُجب رئيس الأمن، وإن ظلّ يتطلّع إليه في حذر؛ فتابع المسئول: - كثيرون متورّطون معنا في هذا الأمر، وكل منهم مستعد لدفع الملايين للخروج منه.. وتوّقف دفعة واحدة؛ ليضيف في شراسة: - ومنهم من سيدفع ملايين أخرى، بلا تردّد؛ لشراء تلك الوثائق، والاحتفاظ بها. امتقع وجه رئيس الأمن، وهو يقول: - ما الذي يعنيه قولك هذا يا سيّدي؟! التقط المسئول نفساً عميقاً، وربت على كتفه، قائلاً: - يعني أنه كان من الضروري أن أرى تلك الوثائق بنفسي، قبل أن يتمّ تدميرها.. ثم أولاه ظهره، وهو يعود إلى مكتبه، مكملاً في صوت حمل كل شك الدنيا: - كان من الضروري.. جداً. ازداد وجه رئيس أمنه امتقاعاً، وهو يغمغم: - أقسم أنني قد دمرتها. ابتسم المسئول ابتسامة أشبه بالذئاب، وهو يقول: - بالتأكيد. شعر رئيس الأمن باضطراب شديد، وهو يتطلّع إلى ابتسامة ذلك المسئول، الذي صمت بضع لحظات، ثم قال في هدوء عجيب: - ولكن عليك أن تنتبه إلى هذا، في المرات القادمة. انخفض صوت رئيس الأمن، وهو يتمتم: - سافعل يا سيّدي.. سأفعل.. أشار إليه المسئول، قائلاً في صرامة: - والآن.. اتركني وحدي قليلاً. تراجع رئيس الأمن، وهو يقول: - كما تأمر يا سيّدي.. كما تأمر. وما إن غادر رئيس الأمن المكتب، حتى انعقد حاجبا المسئول في شدة، وغمغم بمنتهى المقت: - ومن أدراني أنك قد فعلت؟! ثم التقط هاتفه الخاص، وطلب رقماً، وما إن استمع إلى محدّثه، حتى قال في صرامة عصبية: - "هشام".. لدينا مشكلة جديدة.. بوق يرغب في أن ينطلق لحسابه.. وعلينا أن نخرسه.. وإلى الأبد.. وأنهى المحادثة، وعيناه تحملان المقت.. كل المقت.. * * * ظاهرة عجيبة، تلك التي حدثت عند مقرّ أمن الدولة، في ذلك الصباح المبكّر.. كان كل شيء عادياً، والسماء صافية صحوة، و.. وفجأة، تكوّنت تلك الفقاعة في السماء.. فقاعة نصف شفافة، تكّونت على مسافة متر واحد، من نافذة حجرة مكتب اللواء "سامي"، ثم اندفعت منها حزمة من الأشعة فجأة؛ لتضرب الجدار في قوة مباغتة.. ومع دوي الانفجار، اختفت تلك الفقاعة.. تماماً.. وقد طار جسد اللواء "سامي" مع الانفجار، وارتطم بجسد "حاتم"، وسقط كلاهما أرضاً، قبل أن يهتف اللواء: - ماذا.. لم يكتمل هتافه، مع تألق عجيب داخل ما تبقى من حجرته؛ فالتفت إليه مع "حاتم".. واتسعت عيونهما معاً.. في شدة وذهول.. عنيفين...