كان دستويفسكي قد خرج من المعتقل منذ سنوات قليلة.. حالته المالية سيئة للغاية؛ فالديون تتراكم عليه، وهو بالكاد يقدر على تسديدها.. يتكفل بمصاريف عائلة شقيقه الميت وبدفع ديونها.. يحترق من أجل أن يفي بالتزاماته نحو دور النشر، التي تستغلّ حاجته للمال فتفرض عليه قائمة من الشروط المجحفة، يئن تحتها هذا المريض بالصرع، الذي وُجد في مدينة تفوح منها رائحة الفقر والتعب والنتانة.. وفي قلب تلك الأحداث المضطرمة كتب روايته العظيمة "الجريمة والعقاب". كالعادة يتجاوز دستويفسكي الظواهر والمسميات والأحداث، التي عاصرها وعاشها بالفعل، ويغوص تحت السطح ليستخرج العديد من التساؤلات العميقة، التي ترتفع براويته من مجرد رواية تشرح جريمة قتل مرابية عجوز، إلى أزمة جيل كامل يقبع تحت خط الفقر؛ بينما أفكاره السامية، وأحلامه الكبيرة تؤهله ليكون من العظماء. هل تُبرَّر الجريمة بسبب حالة المجتمع المترديّة؟ إنه كاتب عظيم، ولديه أفكار مدهشة، وأحلام عظيمة بالمستقبل المجهول، وإن كان حال البلد لا يسرّ عدواً ولا حبيباً: الفقر يزيد، والوظائف تكاد تكون منعدمة، وإن وُجدت فهي لمن يدفع الثمن، السفَلَة واللئام يعتلون أعلى المناصب؛ بينما البقية من المثقفين والطيبين يُسحقون تحت وطأة الفقر، والتجاهل، والظلم، والمهانة. هذا التساؤل الخطير يكاد يكون محور رواية "الجريمة والعقاب"؛ فالبطل هنا هو "روديون راسكولنيكوف" الطالب الجامعي، ودارس القانون، والمعجب بشخصية "نابليون" الفذة.. ماذا يكون ردّ فعل العظماء، عندما يجدون بعض الحشرات البشرية تستوقفهم في طريقهم نحو المجد؟ هل يتوقفون من باب أنهم يشتركون في أخوة البشر، ويحرمون بقية الناس من خير عظيم، أم يتمّ سحق هذه الحشرات، لأنها أشبه بالطفيليات الضارة التي لن يحزن المجتمع كثيراً لفقدهم؟ هنا يدمج دستويفسكي شخصيته الفعلية بشخصية الطالب الفقير المثقّف "راسكولنيكوف"، الذي نعرف أنه يعيش في حجرة ضيقة فقيرة، بعمارة تقع بمدينة "سان بطرسبرج" الروسية.. هناك مرابية عجوز أشبه بغُراب البيْن تقوم بامتصاص الشباب أمثاله، وتستغلّ حاجتهم للمال لتفرض عليهم ما شاءت من شروط.. هل لاحظتم التشابه؟ جريمة قتل مرابية عجوز أم أزمة جيل بكامله؟ إنه يكرهها.. يتجنبها.. يتهرب منها.. كما يفعل دستويفسكي أحياناً؛ فيهرب من مكان إلى مكان، أو من بلد إلى بلد؛ لكن الشاب يعيش أزمة حقيقية تتمثل في أن أفكاره وأحلامه تؤهله ليكون واحداً من المتميزين في ذلك العالم الصعب؛ لكن وجود واحدة مثل "إليونا إيفانوفا" -المرابية العجوز- قد يحول دون تحقيق هذا.. إن المرابية أشبه بطفيلي يتغذي على الأجسام والأحلام معاً، ومع وجودها قد لا يتحقق الحلم. فهل تقدر يا "راسكولنيكوف" على تحقيق هدفك وغايتك من أجل التخلّص من تلك المرأة؟ يذهب ذات يوم إليها، ويضربها بفأس فيقضي عليها، ويقتل أختها أيضاً، التي يتصادف وجودها، ثم يلوذ بالفرار، بعد أن سرق بعض الأشياء الصغيرة، من ضِمنها حافظة نقود. السؤال الثاني الذي يمكن أن نلمحه بوضوح في الرواية: هل تفقد الجريمة معناها وهدفها السامي لو فقدت شروطها؟ إن" راسكولنيكوف" قد قتل المرابية العجوز، وقدّم للبشرية خدمة لا تُقدّر بثمن؛ لكن ما ذنب أختها المسكينة، التي تَصَادف أن تكون بموقع الجريمة، والتي قتلها حتى لا تدلّ عليه؟ إنه الآن لا يختلف كثيراً عن أي قاتل آخر في أي زقاق جانبي، يقتل من أجل الحاجة إلى المال.. تحوّل من قاتل من أجل هدف أعلى، إلى آخرَ خائف ومضطرب، ولا يعرف حقاً ما يخبئه له المجهول. وبرغم أنه كان مقتنعاً بأنه يقدّم عملاً جليلاً للبشرية؛ فإنه يشعر بأنه لا فارق بينه وبين أي قاتل آخر؛ فهو ينظر حوله مترقباً، ويُصاب بالحمى، ويشعر بتأنيب الضمير، ويعترف بجريمته للفتاة "سونيا"، قائلاً لها: "إن الشيطان هو الذي كان يغريني، وهو الذي كان يقودني؛ ولكن هل قتلت العجوز حقاً؟ لا، إنما قتلت نفسي". السؤال الثالث -وما أكثر الأسئلة في هذه الرواية- الذي يطرحه دستويفسكي عن وعي وخبرة: هل الحياة ينضبط حالها بالجريمة، أم بالألم؟ فإذا كان "راسكولنيكوف" نموذج الشاب الذي يشعر بتفوّقه العقلي، ويريد ارتكاب الجريمة ليبرهن لنفسه أنه قادر على فعلها من ناحية، وبأنها تستحق من ناحية أخرى؛ فإن عائلة "مارميلادوف" تمثّل الطبقة المسحوقة فكرياً ومادياً؛ فالأب يقضي وقته في الحانة بائساً، ويفكر كثيراً في الانتحار؛ لكن شخصية ابنته "سونيا" تُعدّ نموذجاً لفتاة تشعر بسطوة الفقر عليها، وعلى إخوتها الصغار وزوجة أبيها المريضة؛ مما يجعلها تضطر لبيع جسدها من أجل إطعام الأفواه الجائعة. تضحية تتنكر في هيئة جريمة أما شخصية المحقق "بافيري بتروفيتش"؛ فهي شخصية حيوية تتمتع بالذكاء الشديد، والقدرة على ملاحظة الأمور، وهو يتعامل مع "راسكولنيكوف" بحذر وحسّ فائقين، يجعلانه يتوصل لمرتكب الجريمة الحقيقي؛ لكن بطريقة تتّسم بالعمق الشديد، دون اللجوء للسطحية كما يفعل كتّاب آخرون. الرواية بشخوصها وأحداثها وأخلاقياتها، تحفر في قاع المجتمع الروسي بكل قوة، وتستخرج منه أسباب الجريمة ونتائجها، وتطرح تساؤلها الأكبر، عن الجريمة التي تُرتكب من أجل هدف إنساني؛ فهل هذا يؤثر على كونها جريمة في النهاية؟ ويتبقى أن دستويفسكي كان يتكلم عن البيئة الفقيرة، وشخصياتها المعقدة، وما يحملون من آلام، وأحلام تحتضر، بشكل جمالي فائق؛ وكأنه يحنو عليهم، ويدرك عمق الواقع المؤلم الذي عاشه هو من قبلُ، ويعيشه أبطاله على الورق، وكأن الكاتب النمساوي "ستيفان زيفايج" كان مُحقاً عندما قال: "إن قدرة دستويفسكي على الملاحظة الفنية ليست سوى قدرة غيبية؛ وبينما الفن عِلْم عند بعض الناس؛ فهو عنده سحر أسود.. إنه لا يشتغل بالكيمياء التجريبية؛ بل بسيمياء الواقع، وليس بعلم الفلك؛ بل بالتنجيم الخاص بروح الإنسان.. إنه لا يجمع بل يملك كل شيء.. إنه لا يحسب؛ لكن مقاييسه لا تُخطئ".