لماذا لا يظهر الرسول الأمين محمد خاتم الأنبياء والمرسلين على شاشة السينما أو الدراما؟! أستغفر الله العظيم.. كيف تجرؤ على طرح هذا السؤال من الأساس؟ ألا تعلم أن أنبياء الله، ورسله، وملائكته، أعزّ قدراً وأعلى مكاناً من أن يجسّدهم بشر يخطئون ويعصون الله؟ من ذا الذي يستحق شرف تجسيد الرسول الكريم في وسط فني غارق في المعاصي والرذائل والقبلات والأحضان والمشاهد الإباحية الساخنة؟ لا شك أن هذا ما جال بخاطر معظمكم فور رؤية السؤال، لكن إن حالفني الحظ ووجدت من يتسع صدره لقراءة باقي السطور التالية، دون أن يكتفي -كالمعتاد- بالسؤال فقط، ويذهب بعده مباشرة إلى خانة التعليقات ليمطرني بما لذّ وطاب من الشتائم واللعنات، واتهامي بالزندقة، أو الهرطقة، أو الخروج عن الملة، فهذا -على الأقل- أقصى ما أحلم أن أصل إليه! لست عالم دين، ولا أزهرياً، ولا سلفياً، ولا حتى إخوانياً -وهو ما يؤهلكم بجدارة لأن تسخروا من هذا "المتفيقه" الذي يخوض في الدين وهو يعترف بأنه ليس عالماً فيه- لكن كفاني علماً ويقيناً أن من أعظم هبات الخالق ونعمه التي أسبغها على الإسلام هي تجريده من مفهوم الكهنوت، وعدم قصر التبحّر والاجتهاد فيه على فئة معينة من رجاله، بل ترك الباب مفتوحاً للتعمّق والبحث والاطّلاع، فإن أصبنا كبد الحقيقة فلنا أجران، وإن أخطأنا ولم نُصِبْ فلنا أجر الاجتهاد.
من هنا أنظر بعين الدهشة والحيرة لفتاوى "الأزهر الشريف" التي حرّمت ظهور الأنبياء والصحابة في أعمال فنية -بغضّ النظر عن دقة أو جودة تلك الأعمال- ومن هنا اعترض الأزهر على ظهور شخصية "أسد الله" حمزة بن عبد المطلب في فيلم "الرسالة"، قبل أن يجيزها في النهاية، ويسمح للفيلم بالبثّ والإذاعة على التليفزيون المصري دون أن نفهم أسباب التحريم والمنع، ولا كيف تمّت الإجازة، فإذا كان التحريم والمنع في محله فكيف تمّت الإجازة؟ وإن كانت الإجازة صواباً فعلى أي أساس تمّ التحريم والمنع؟ من هنا أتساءل إن كان ظهور سيدنا حمزة بن عبد المطلب قد تمت إجازته على أساس أنه صحابي لا يرقى لدرجة الأنبياء والرسل، فما بالنا بسماح "الأزهر الشريف" بعرض الفيلم الأجنبي "آلام السيد المسيح" للمخرج "ميل جيبسون" في دور العرض المصرية عام 2004، (وبالمناسبة اسم الفيلم الأصلي "آلام المسيح" فقط، بدون السيد) رغم أن المسيح -عليه السلام- نبي الله ورسوله وكلمته التي ألقاها إلى البتول العذراء، فكيف أجاز الأزهر ظهوره على شاشة السينما وهو الذي رأى من قبل أن أنبياء الله ورسله وملائكته أعلى مقاماً من أن يجسّدهم بشر من العوام؟! (بغضّ النظر عن أن الفيلم يؤيد قصة صلب المسيح التي ينفيها الإسلام ومن ثم الأزهر). الناس تتابع مسلسل "يوسف الصديق" المشكوك في معلوماته؛ لكنهم على الأقل يستمتعون به، فلماذا لا يتّفق علماؤنا الأجلاء الموقّرون لمراجعة عمل جبار يليق ب"خاتم الرسل والأنبياء"؟ الأمر يجعلني أشعر أنه حتى "الأزهر الشريف" يأخذ في الاعتبار هوية جهة الإنتاج، فيجيز مرور وعرض فيلم "الرسالة" رغم وجود شخصية الصحابي الجليل حمزة بن عبد المطلب في الأحداث، ويسمح بظهور السيد المسيح في فيلم "آلام المسيح" فقط؛ لأن كلا الفيلمين من إنتاج "أجنبي".. وضعْ تحت "أجنبي" ألف خط! والآن، وعلى شاشة قناة "ميلودي دراما" يُعرض مسلسل "يوسف الصديق" دون أي إجازة من الأزهر الشريف الذي سمعت -وهذه ليست معلومة مؤكدة- أن علماءه معترضون على تجسيد شخصية نبي الله يوسف على شاشة الدراما، رغم أن الإنتاج أجنبي هذه المرة أيضاً، لكنه يحمل الجنسية "الإيرانية"، وتلك هي المشكلة! إذن يا سادة مسألة تحريم ظهور الأنبياء، والرسل، والصحابة، على شاشة الدراما أو السينما ليست من رواسخ العلم، ولا من ثوابت العقيدة، أو حتى من مسلّمات الكون التي لا غبار عليها، مثل ظهور الشمس من المشرق وغروبها من المغرب، بل هي اجتهادات تتغير مع الوقت والعصر، وهو ما يجعلني أنتظر -بفارغ الصبر- مسلسل "أمير المؤمنين عمر بن الخطاب" الذي يراجعه حالياً الشيخ "يوسف القرضاوي" -رئيس اتحاد علماء المسلمين- بل وأطالب أيضاً -باعتباري إنسانا، ومسلما، وعاشقا لشخصية محمد بن عبد الله حتى ولو لم أكن مسلماً- بعمل مسلسل عن سيرة "سيد المرسلين"، هذا الرجل الذي فاق بخلقه ورسالته الأساطير والمعجزات، واخترق حواجز الزمان والمكان، وطُوي له الكون ليطلع في الإسراء والمعراج على الماضي والحاضر والمستقبل، والذي حاز على إعجاب وتقدير الكثيرين من المستشرقين والمفكرين الغربيين، حتى أن "مايكل هارت" -غير المسلم- وضعه في قائمة أعظم القادة والمفكرين بكتابه "الخالدون مائة أعظمهم محمد"، وقال عنه أحد المستشرقين أيضاً: "لو كان محمد بيننا الآن، لحلّ كل مشكلات العالم وهو يشرب فنجاناً من القهوة"!
لكن تبقى مشكلة أن أعمال السيرة الذاتية يتم تحريفها ودسّ بعض الأحداث الخيالية بها من وحي خيال المؤلف، وهو ما حدث -مثلاً- في فيلم "واإسلاماه" الذي غيّر أحداث القصة الحقيقية للبطل "محمود" أو "قطز" وكفاحه في صدّ خطر المغول والتتار تماماً، وكذا فيلم "الناصر صلاح الدين" الذي استشهد في أحداثه ابن صلاح الدين رغم عدم حدوث ذلك في الواقع، وغيرها من الأمثلة والنماذج على التغييرات اللاتاريخية التي تدخل على الأعمال الفنية التاريخية أو الدينية، ثم من هذا الذي يستحق شرف تجسيد شخصية الرسول الأكرم ؟ المشكلة الحقيقية ليست في التجسيد بقدر ما هي تكمن في كيفية التنفيذ، فإذا تمّت مراجعة العمل من كبار علماء الدين؛ للوقوف على كافة التفاصيل -صغيرها وكبيرها- حتى لا يتم زج أي افتراء أو خيال على شخصية مقدسة مثل شخصيات الرسل والأنبياء والصحابة، فهذا بيت القصيد، أما عن الذي يستحق شرف التجسيد فهو حتماً شخص سيوقّع على إقرار يؤكد فيه أنه سيعتزل العمل الفني تماماً بعد تجسيد مثل هذه الشخصية، وهو ما حدث في الغرب مع معظم الفنانين الذين جسّدوا شخصية السيد المسيح -عليه السلام- أما عن ماضي هذا الفنان -الذي عليه شك- فيمكن اختيار وجوه جديدة بلا ماضٍ فني مدنّس، أو شخصيات مشهورة لكنها "محترمة"، وبلا خطايا سابقة، وليست لها سوابق مُخجلة.
الممثلة الإيرانية التي قامت بدور زليخة بمسلسل "يوسف الصديق" لكن ما أهمية تجسيد الرسول الكريم في عمل فني وعدم الاكتفاء –مثلاً- بنور يدلّل على شخصيته، أو صوت راوٍ يعبّر عن كلامه وأحاديثه؟ إنها مفردات العصر ولوازم المجتمع الغارق في الماديات من قمة رأسه وحتى أخمص قدميه.. المجتمع الذي صار أفراده في حاجة لتحديث وتجديد الخطاب الديني، ومواجهة الفن الهابط والمبتذل، بالفن الحقيقي الذي يقرّب الناس من ربها، ويغسل العقول، والقلوب، ويرتقي بالوجدان، بما يقدمه من رسالة صادقة تدحض شهوانيات وإغراءات و"سفالات" الفن السفلى.. الناس انهمكت في متابعة كليبات "البانيو" و"الحصان"، وصار كبيرهم وصغيرهم يحفظ "بوس الواو"، و"حطّ النقط على الحروف"، و"أخاصمك آه"، و"العب العب العب"، أكثر مما يحفظون الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة المطهّرة، فما الذي يحدث وهم غارقون في ضلالتهم وتغييبهم حينما يفاجأون ب"رسولهم الكريم" على الشاشة، ونحن نرى الرمز بهيئته وملامحه "التمثيلية" لنتأثر ونشاهد بعمق ومصداقية أكثر كيف تألّم هذا الرجل، وكيف بكى ودمعت عيناه الشريفتان، وكيف سالت دماؤه الطاهرة، وكيف هدرت نبرته الشجاعة رابطة الجأش في جموع المسلمين في أحلك لحظات الضعف والهوان لتستنهض هممهم وتجعلهم خير أمة أخرجت للناس. العالم الغربي الذي أرسل لنا "السيد المسيح" مصلوباً فأقبلنا على مشاهدته رغم يقيننا بأنهم "ما قتلوه وما صلبوه ولكن شبّه لهم"، في حاجة -تحت بند الدعوة، وتقريب المسافات بين الديانات، والثقافات، والشعوب- إلى أن يشاهدوا سيدنا محمدا -صلى الله عليه وسلم- بأعيننا وعقيدتنا وبسنته النبوية المطهرة، وليس كما سمعوا عنه في كتبهم المغلوطة، ووسائل إعلامهم الصهيونية، وأفلامهم الوثائقية أو حتى السينمائية التي شوّهت حقيقته، وطمست نبوّته الشريفة، لعل وعسى أن ينهض من بينهم من يحرّك به هذا العمل الفني ميولاً لقراءة ومعرفة المزيد عن هذا الرسول، وهذا الدين، فيشرح الله قلبه للإسلام أو على الأقل يجعله ينظر له نظرة عادلة. فالغرب يا سادة لا يسمع تسجيلات الشيخ محمد حسان، ولا يشاهد حلقات الشيخ محمد حسين يعقوب، ولا حتى محاضرات شيخ الأزهر، وبكل أسف معظمنا -نحن المسلمين- أيضاً لا يسمع ولا يقرأ.. الناس تتذكر أحداث فيلم "سهر الليالي" وتحفظ عن ظهر قلب أن فتحي عبد الوهاب كان زوجاً لمنى زكي، لكن من منهم قرأ "الرحيق المختوم"، و"فقه السنة"، و"رياض الصالحين"؟! لماذا إذن لا نوظّف ثبات الذكريات والمشاهد الدرامية في أذهان المشاهدين في خدمة الدين والرسول الكريم؟ نعم الناس مقصّرة وكان من الأولى والأجدر بها أن تتعمّق وتفهم وتقرأ وتتابع، لكن هذا لا يعني أن نعاقبهم على عدم اطّلاعهم بتركهم في غفوتهم إلى يوم يبعثون.. فلعل وعسى من يشاهد عملاً كهذا أن تدمع عيناه، ويشرح الله قلبه للهدى ليخرج من الظلمات إلى النور.. انظروا كيف قفز الألبوم الديني "في حضرة المحبوب" بالمطرب وائل جسار مائة وثمانين درجة، ليصبح في مكانة ومنزلة مختلفة تماماً لدى جمهوره؛ لمجرد أنه وصف مواقف بسيطة حدثت في حياة الرسول وقال عنه: "قلبك حنين يا نبي"، فما بالنا ونحن نشاهد هذا النبي؟ الناس تتابع الآن مسلسل "يوسف الصديق" المشكوك في معلوماته؛ لأنه ذو أصل إيراني، لكنهم على الأقل يستمتعون به، خاصة وأن ما ورد عن سيدنا يوسف في صفحات محدودة بالمصحف الشريف ليس هو -طبعا- كامل تفاصيل حياته التي امتدت لعشرات السنين، فلماذا لا يتّفق علماؤنا الأجلاء الموقّرون لمراجعة عمل جبار يليق ب"خاتم الرسل والأنبياء".. أعتقد إننا في حاجة لذلك حقاً.
اقرأ الرأي المعارض لهذه المقالة ظهور الرسول على الشاشة.. تلك هي المشكلة! و اقرأ أيضاً المناقشة الحامية حول تجسيد الصحابة والأنيباء والملائكة مشاهدة الأنبياء في المسلسلات والأفلام.. جائز وممكن أم مرفوض وحرام؟