في كل مرة سوف أقدّم لك ترجمة وكلمات أغنية أجنبية من أيام شبابي (أي عندما كانت الديناصورات تجوب المستنقعات المغطاة بالسراخس). أغنية دُفنت وغطاها الصدأ فالتراب؛ لكن يكفي أن تحملها بين أناملك لتدرك أي بريق وسحر فيها.. سمه ما شئت.. سمه نوعاً من ثرثرة العجائز على غرار (الغُنا ده كان أيامنا إحنا).. أو سمها رغبة في أن تشاركني هذه النشوات القديمة.. المهم أني أضمن لك الاستمتاع. لقاؤنا الثاني مع الأسطورة الفرنسية "إديت بياف".. العصفورة.. ذات الصوت الساحر الذي يحمل كل إنسان ذكرى ما بصدده، وقد عاد العالم يتذكر "بياف" بقوة؛ خاصة بعد الفيلم الجميل "الطفلة La Môme" إنتاج 2007، الذي أخرجه أوليفييه داهان، وقامت بدورها فيه ماريون كوتيلار. "إديت بياف" مطربة فرنسية عظيمة، ولدت في باريس عام 1915 باسم "إديت جيوفانا جاسيون". وفيما بعد اقترنت باسم "بياف"، وهو لفظ فرنسي شائع معناه "العصفور". كان أبوها لاعب أكروبات يكسب رزقه من تقديم العروض في الشارع، وقد كانت كفيفة تماماً في طفولتها بسبب التهاب في العين، ثم شفيت بمعجزة. وفي العام 1935 بدأتْ تغنّي في أحد الملاهي الليلية، وهناك تعلّمت كيف تواجه الجماهير، كما تعلّمت أن تلبس ثوباً أسود على المسرح، وهو ما سيصير علامة مسجلة لها فيما بعد. أثناء الحرب العالمية الثانية كانت تغني للنازيين في ملهى "122"، وإن اتضح أنها كانت تساعد المقاومة الفرنسية، وتساعد الأسرى عن طريق علاقاتها بكبار الضباط الألمان. وفي أكثر من مرة تمكّنت من إنقاذ رجل مقاومة من الإعدام. بعد الحرب العالمية بدأت تُعرف خارج فرنسا، وقد تألّقت في الولاياتالمتحدة؛ لدرجة الغناء في قاعة "كارنيجي". وكان لها الفضل في اكتشاف وتلميع المطرب الكبير "شارل أزنافور". تعرّضت لثلاث حوادث سيارات؛ مما أدى لأن تتعاطى جرعات عديدة من المورفين مع الكحول، وقد أدى هذا لتدهورها. وفي العام 1963 توفيت بسرطان الكبد، وجاء آلاف المحبين ليودعوها.. والحقيقة أنها عاشت حياة صاخبة غير مشرّفة جداً؛ مما جعل الكنيسة تمتنع عن عمل قداس على روحها؛ لكن -كما حدث في جنازة أم كلثوم عندنا- شلّت باريس تماماً بجموع المحبين الباكين الذين لم يصدقوا رحيلها.. لكن الحياة لا تنتهي.. وكانت هناك أسطورة فرنسية أخرى قادمة اسمها "ميراي ماتيو". أما عن الأغنية نفسها؛ فقد قدّمتْها عام 1957.. أي أن عمر الأغنية اليوم هو 53 سنة، وإن كان لها أصل بيروفي (من بيرو) يعود لعام 1936، في حقبة اكتسبت فيها أغاني أمريكا اللاتينية شعبية قوية في أوروبا. سوف تلاحظ إيقاع الفالس واضحاً جداً؛ أي أنها أغنية مصممة لأداء تلك الرقصة الشهيرة. لم ترُق الكلمات الأصلية ل"بياف"، وقامت بتغييرها بالكامل، لتتحدث عن فتاة تضيع في الزحام، وفجأة تجد أمامها الرجل الذي خُلقت له. الرجل الذي كان يجب أن يكون حبيبها منذ البداية، ترقص معه للحظات، ثم يزداد الزحام شراسة؛ فيضيع منها من جديد.. للأبد.. لقد أهداها الزحام هدية عمرها ثم استردّها على الفور. الكلمات صعبة لأن الأخت "بياف" تتكلم بسرعة مفترِضَة أنك "فولتير" أو "سارتر"؛ خاصة مع من تعلموا الفرنسية "بالفتاكة" مثلي؛ لهذا اخترت لك هذه النسخة التي تقرأ فيها الكلمات على الشاشة، ويمكنك أن توقف الكادر في أية لحظة لتعيد قراءة السطر.. فقط تذكّر أن "الفاراندولي" هي رقصة جماعية يرقصونها في الشوارع في "نيس". يمكنك سماع أغنية اليوم على هذه الوصلة (نصف التسجيل للأغنية العادية، والنصف الآخر للنسخة السريعة المخصصة للرقص والاحتفالات العامة) إضغط لمشاهدة الفيديو: من جديد أرى المدينة محمومة تحتفل.. تختنق بحرارة الشمس وبالبهجة.. ووسط الموسيقى أسمع الضحكات والصراخ.. تنفجر وتتواثب من حولي.. وأضيع وسط هؤلاء القوم المرحين.. شاعرة بالدوار والارتباك.. أقف هناك.. ************************* Je revois la ville en fête et en délire Suffoquant sous le soleil et sous la joie Et j'entends dans la musique les cris, les rires Qui éclatent et rebondissent autour de moi Et perdue parmi ces gens qui me bousculent Etourdie, désemparée, je reste là ************************* وهنا أستدير فجأة.. فيتراجع للخلف.. والزحام يلقي بي بين ذراعيه.. يحملنا الزحام المحيط بنا بعيداً.. يجرنا معه. نلتصق ببعضنا حتى صرنا ككيان واحد.. ************************* Quand soudain, je me retourne, il se recule, Et la foule vient me jeter entre ses bras... Emportés par la foule qui nous traîne Nous entraîne Ecrasés l'un contre l'autre Nous ne formons qu'un seul corps ************************* وبلا جهد يُذكر يدفعنا الزحام كأننا مقيّدان بالأصفاد لبعضنا.. ثم يتركنا وقد غبنا عن الوعي لكننا سعيدان.. يحملنا الزحام الذي يتحرك للأمام.. ويرقص.. رقصة فاراندولي مجنونة.. وقد التحمت يدانا.. أحياناً نرتفع.. ويطير جسدانا.. ثم نسقط للأرض معاً.. غائبين عن الوعي لكننا سعيدان.. ************************* Et le flot sans effort Nous pousse, enchaînés l'un et l'autre Et nous laisse tous deux Epanouis, enivrés et heureux. Entraînés par la foule qui s'élance Et qui danse Une folle farandole Nos deux mains restent soudées Et parfois soulevés Nos deux corps enlacés s'envolent Et retombent tous deux Epanouis, enivrés et heureux... ************************* والسعادة التي أشعلَتها ابتسامته تخترق أعماقي.. ولكن فجأة وسط هذه الضحكات أطلقت صرخة.. فجأة انتزعني الزحام من بين ذراعيه.. وحملني الزحام بعيداً.. وجرّنا كل واحد في اتجاه.. قاومت وتصارعت. لكن صوته اختنق وسط ضحكات الآخرين.. صرخت من الألم والحنق والغيظ.. أصرخ.. يحملني الزحام المندفع.. ونرقص رقصة فاراندولي مجنونة. لقد ذهبت لبعيد جداً.. أطبق قبضتي.. وألعن الزحام الذي يسرق مني.. ذات الرجل الذي منحه لي.. والذي لم أجده قط من وقتها. ************************* Et la joie éclaboussée par son sourire Me transperce et rejaillit au fond de moi Mais soudain je pousse un cri parmi les rires Quand la foule vient l'arracher d'entre mes bras... Emportés par la foule qui nous traîne Nous entraîne Nous éloigne l'un de l'autre Je lutte et je me débats Mais le son de sa voix S'étouffe dans les rires des autres Et je crie de douleur, de fureur et de rage Et je pleure... Entraînée par la foule qui s'élance Et qui danse Une folle farandole Je suis emportée au loin Et je crispe mes poings, maudissant la foule qui me vole L'homme qu'elle m'avait donné Et que je n'ai jamais retrouvé