قدر الله وما شاء فعل.. قالت بنفس عينيها المغمضتين.. واتبعت كلماتها بدقة قوية لا تتناسب ووهنها على الارض بعصاها التي تتوكأ عليها بكلتا يديها.. ايقنت عندها ان رهبتي منها لم يكن لها ما يبررها واننى يجب ان اكون اشجع من ذلك.. الامر خرج من يدي تماما وسمحت بهذا ام لم اسمح فلقد فرضت على ان اتناول معها الشاي.. شعرت بمعدتي تنقبض لكن اعتقد ان امتعاضي من قذارة الكوب لم يكن اكبر من خوفي منها! فتناولته وانا اشعر بأحشائي تقيم ثورة كاملة. لم يكن سهلا ان ابقى اكثر في انتظار حفيدتها صديقتي.. ورغبتي الملحة ان اسمعها تتحدث مرة اخرى اثارت عندي فكرة قديمة كنت قد كرستها لمقابلة الغير مألوف.. واين يمكن ان اقابل شيء بتلك الغرابة.. رحت اتأملها وانا مطمئنة –نوعا- الى انها لا تراني فلقد عرفت سلفا من صديقتي انها لم تعد ترى للاسف.. ندت عنى تنهيدة حارة عندما ذكرت كيف وصفتها لي صديقتي كأسطورة.. هذه؟!
هذه كانت نجمة يوما بل ملقبة بصوت السماء في يوم من الايام الغابرة الى ان تزوجها جد صديقتي.. ابتسمت وكاد قلبى يتوقف فجأة إثر ان صك مسامعي ما قالت: إذ اعتدلت ونظرت لبعيد بعينيها الباهتتان اللتان تتحرك فيهما الذكريات بسواد دائري شاحب يرزح تحت غلالة بيضاء كسحب غامضة.. قالت: أحقا لا تصدقين؟! اختلجت من جماع روحي.. فاجأتني المرأة حقا كأنها تقرأني دون مناسبة تذكر.. شعرت بالخجل والدهشة
وقلت ببلاهة: نعم؟ ماذا تعنين؟ قالت بتؤدة من لديه مخزون لا نهائي ينتظر لحظة الكشف: أحقا لا تصدقين اننى كنت ما حُكي لكي عني؟ اصابنى خرس ابله فتابعت وكأنها لا تريد اجابتى.. حسن جدا صدقي كل ما ينسجه خيالك ايضا فلقد وصلت الى ما بعده بكثير.. ابتسمت عن فم خرب بسمة مخيفة وقالت قدر الله وما شاء فعل.
فقط لو كان صدقني القول.. لكن قدر الله وما شاء فعل.. كنت اصغر منك قليلا.. كنت جميلة وغنية ومن عائلة.. كان صوتي آسرا.. دفعني غرور سني الى المجازفة وخضت طريقا قاسية حتى اصبح نجمة.. وقد كان.. فقط لو كان صدقني القول! ظللت محتفظة بهدوئي اخشى التحرك او إصدار اى صوت فدقت مرة اخرى بعصاها.. زامت بلوعة وظننت انى لمحت لمعة في ما بقى من عينيها وهى تقول: خسرت كل شيء عائلتي وسمعتي.. ثم ظهر.. ظهر (الغالي) اخذنى من كل شيء واعاد لي كل شيء.. الغالي.. فقط لو كان صدقني القول! فتمتمت برهبة: رحمه الله يا تيتا كان رجلا عظيما..بدت غاضبة وكأنها تكتشف لاول مرة اننى في الغرفة ! قائلة: عظيما؟ عظيما؟
نعم كان عظيما.. لكنه كان.. قدر الله وما شاء فعل.. تركته عائلته الكبيرة.. فتخلى عن الحياة كي يمنحني حياة.. ولا اعرف بعد لم كذبني وكأنني لن اسامح؟
زاد توتري فلم اعد افهم ما تقول وظننت انها تهلوس.. رحت احدق في باب الشقة على امل ان اسمع صوت خطوات صديقتي.. لكن لم اسمع سوى صوتها العميق: قالوا انه يخونني.. يأخذ نقودي.. لم اصدق.. ابتعدت عن كل شيء ورحنا نبيع كل ما نملك بعد انتهاء نقودنا السائلة.. لم افهم كراهيته لي.. فلقد امتلأ رحمي بثلاثة أبناء تباعا فهل تلك كراهية؟ ! لم افهم اسباب تأخره.. لم افهم اشياء كثيرة.. وما زلت انتظر ان يصدقني القول فواجهته.. انكر كل شيء.. لكن عين الخادمة المتورمة وبكائها المر جعلني اتبعه.. جعلني ارى كل شيء.. وعندما سألته وسط المشهد المخزي كذب مرة اخرى.. لم احتمل كذبه فقط لو انه صارحني انه كرهني لتركته... لكن انسحاقه جعله يموت.. فلم افعل سوى ان نفذت ارادة الله! كنت أنفذ ارادة الله.
عند تلك النقطة كنت قد تجمدت.. فاغرة فمي غير قادرة على اى شيءدقت بعصاها مرة اخرى وهي تهتز اماما وخلفا في رتابة: لم يعثر احد عليه..وهل ابتعد عنه بعد ما كان! ها هو احتفظ به قريبا.. دقت مرتين بنفس الاهتزاز. فنظرت نحو ارضية الغرفة وقد تسارع نبضي....... الغالي معي دوما.. آه يا حبيبي فقط قل لي الحقيقة.. انا اسمعك!
عند هذا الحد كنت قد فقدت اعصابى تماما.. ولم ينقذني مما انا فيه إلا صوت مفتاح صديقتي في الباب.. دخلت باسمة فقبلت يد جدتها ونظرت نحوى بإستفسار تسألني هل بقيت طويلا.. فرجوتها بطريقة حاولت ان تبدو طبيعية اننى اريد الانصراف سلمت على الجدة بيد مرتجفة ونظرت نحو عينيها فغمغمت رافعة السبابة بشكل التوحيد: قدر الله وما شاء فعل.. هربت من آخر حروفها وبدني تسرى به رجفة باردة ظللت صامتة في الطريق مع اوهامى. فسألتني صديقتي مابك؟ هل انتِ بخير؟ اومأت وعقلي تائه فإذا بها تضحك بشدة.. قطبت حاجبي بغضب.. فإذا بها تقول ببساطة: يبدو ان الغالية حكت لكي عن الغالي؟ اعتدلت مواجهة لها واومأت بخوف.. فتابعت ضاحكة.. يالتلك المرأة الن تكف عن قصصها.. يا عزيزتي انها حقا كانت يوما ما نجمة في سماء الفن لكن هذا لم يستمر سوى شهرين فقط وعندما تزوجها جدي ابتعدت عن الاضواء كانت تملك هبة التأليف وكم الفت لنا قصصا فى طفولتنا لكن الامر صار مخيفا منذ خمس سنوات.. لقد صارت لا تؤلف إلا قصة واحدة بأشكال عدة.. كلها عن قتل جدي الغالي هههههههه..
لقد اشار الطبيب ان الامر لا يدعو للقلق بل اننا نوحي لها اننا نصدقها كي نترك لها متعتها الوحيدة.. مر اليوم عاديا جدا بعد كل هذا وكلما تذكرت قصة الجدة لم يضحكني شيء اكثر من غبائي! إذ كيف ستدفنه في الغرفة معها وهم يسكنون في الدور الثالث؟!
هدى عبد القادر
التعليق: أرحب بالصديقة هدى في الورشة، فأنا سعيد بقصتها، وخاصة قدرتها على الحبكة والحكي. القدرة على التقاط المرض والنوستالجيا، وتقديمها في إبهام مثير ومتوتر، ثم النهاية، كل هذا جميل.
فقط هناك بعض التفصيلات الصغيرة، حول خوف الراوية المكرر، ربما لا تضيف كثيرا. كذلك هناك أخطاء لغوية لابد من مراجعتها.. ننتظر كاتبة متميزة.
د. سيد البحراوي أستاذ الأدب العربي الحديث بكلية الآداب، جامعة القاهرة