منذ سنوات -قبل الثورة- كنت مع أصدقائي في حفل لمحمد منير، كان اسم دكتور البرادعي وقتها قد بدأ يتردد كبديل مقبول عن نظام الطاغية مبارك وعن شبح الدولة الإخوانية الدينية، التي كان نظام المخلوع يتخذها فزّاعة يرتكب باسمها أعتى جرائم القمع.. علمنا يومها بوجود بعض رموز الحزب الوطني بالحفل، فبدلنا بعض كلمات أغنية "يا مراكبي" لمنير وأخذنا في الغناء بصوت عالٍ "شد القلوع يا برادعي.. مفيش رجوع يا برادعي" على سبيل إغاظتهم.. وبعد الثورة، بدأت كل مجموعة تبحث لها عن زعيم تلتف حوله، فهذه التفت حول حمدين، وتلك حول أبو إسماعيل بحملات تحت اسم "حازمون"، وثالثة هي "البرادعاوية"، ورابعة صغيرة نوعا ما اصطفت خلف خالد علي، وخامسة متنوعة رأت في الدكتور أبو الفتوح الزعيم المجمّع، بينما التف الإخوان -بالطبع- حول مرشحهم سواء كان خيرت الشاطر أم محمد مرسي، وأخرى فضّلت شفيق باعتباره -وفق رأيهم- الرجل الخبرة! جاءت الانتخابات بمرسي ثم بعد عام واحد خرجت الجموع للإطاحة به، وفوجئنا بنسبة ضخمة منها ترفع صور الفريق عبد الفتاح السيسي مطالبة به رئيسا لمصر. العامل المشترك الأساسي بين كل هؤلاء أنهم -إلا من رحم ربي- لم ينتظروا من مرشحهم برنامجا أو رؤية أو خططا، بل أعلنوا دعمه وتأييده "عمياني" وكأنهم يوقعون له على بياض ليقود الوطن كيفما يشاء، وصار كل منهم يرى في رجله "الولد" الذي قيل عنه "آه يا بلد عايزة الولد!"، و"الدكر" الذي ذكرته أغنية فريق كايروكي "مطلوب زعيم".. أرى كل هذا وأتمتم في سري "سنتعب مع هؤلاء القوم لنقنعهم أن هذا ليس شكل الدولة التي نريدها".. فتلك الصورة التي يحملونها لصاحب منصب رئيس الجمهورية تلغي تماما فكرة المواطن الذي يختار رئيس بلاده وفق برنامج ورؤية وخطة ذات خطوات واضحة وجدول زمني دقيق، ثم يراقب أداءه بصرامة ويتدخل عند اللزوم وفق الآليات الدستورية وأدوات الرقابة الشعبية، ليقوّمه إذا أخطأ بل ويخلعه إن استدعى الأمر ذلك.. ويحلون بمسلكهم هذا محل المواطَنة فكرة "الرعية" الخاضعة للرئيس الفرد، الذي يشير بسبابته أو عصاه يمينا ويسارا فيسير الشعب وراءه.. يحلو للبعض أن يردد أن مصر لا يصلح لها سوى هذا النوع من الرؤساء، ويستشهد بعضهم بعهود الفراعنة والولاة والباشاوات كدليل على صحة نظريتهم، غير مدركين أن واجب الشعوب أن تخرج بمجتمعاتها من نقطة الثبات التاريخية، وأن تتقدم خطوات للأمام في سبيل المدنية، والتي سبقتنا لها أمم ودول بعضها لم يبلغ عمره عُشر عمر الدولة المصرية! إنني أرى في هذا التفكير نوعا من التواكل أو ما يحلو لي أحيانا أن أسميه "التنبلة السياسية"، حيث لا يريد صاحب هذه الفكرة سوى زعيم يقول للفرد ماذا يفعل وأي مواقف يتخذ وأين يذهب، ويوفر له متطلبات الحياة الأساسية، وهو -المؤمن بهذا المبدأ- يشفق على نفسه من عناء متابعة وفهم المتغيرات والمعطيات ويستثقل جهد ممارسة الرقابة الشعبية، ويستخسر الوقت الذي سينفقه سعيا لتعديل مسار وأداء السلطة وأصحاب القرار، باختصار هو يريد أن يشتري دماغه.. فهو أشبه بصاحب المشروع الذي يستأجر من يديره ويسأله أن يريحه من عناء الأرقام وتقارير المكسب والخسارة، فهو لا يعرف إن كان هذا الرجل يمارس عمله بأمانة أم يغشه ويسرقه. وربما حاول البعض الرد على قولي هذا بالاستشهاد بنظرية "المستبد المستنير" المنسوبة إلى العالم المناضل الجليل جمال الدين الأفغاني، ولكن دعوني أفاجئ من لا يعلمون منكم أن هذه النظرية إنما هي أكذوبة وخرافة نفاها الأفغاني نفسه بل ونفاها تاريخه النضالي ضد المستبدين من الحكام، والقارئ في سيرته في كتاب "مسلمون ثوار" للعلامة الدكتور محمد عمارة يمكنه التأكد من هذا.. البعض الآخر يستحضر بعض صور التاريخ الإسلامي ليعطي الفكرة بُعدا دينيا مرتبطا بالأمر القرآني بطاعة ولي الأمر، ويذكرون من سيرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما يريدون به تقديمه كنموذج للمستبد المستنير، ولكنهم ينسون -أو يتناسون- أن نفس القرآن العظيم قد قالها صراحة إن أمر المسلمين شورى بينهم، بل وشدد على مبدأ الشورى بالذات بعد غزوة أحد التي أراد فيها الرسول صلى الله عليه وسلم للمسلمين التحصّن في المدينة، بينما جاء رأي الأغلبية بالخروج وكان رأيا غير موفّق ولكن الوحي نزل بالتأكيد الصريح {وَشَاوِرْهُم فِيْ الْأَمْرِ} ليغلق الباب إلى الأبد أمام من يقولون بأن عدم استبداد الحاكم بالأمر يفسد الدولة.. وتضمنت الأحاديث النبوية الشريفة ذكرا للمستبدين من الأمراء حيث قيل "يقولون ولا يُرَد عليهم، يتقاحمون في النار كما تتقاحم القردة".. وقد كان الفاروق عمر الذي يستشهدون به لا يقضي أمرا إلا بمشورة أهل الحل والعقد من أهل بدر وكبار الصحابة وأهل المدينة رضي الله عنهم أجمعين.. كذلك يوجد من يقدمون لنا النماذج من التاريخ لحكام ساسوا بلادهم بالاستبداد وأقاموا بها نهضة صناعية واقتصادية وسياسية، ولكنهم يغفلون أن عهود هؤلاء الحكام قد انتهت بكوارث، فهتلر أدخل بلاده في حرب طاحنة ثم احتلال أمريكي سوڤيتي، وستالين قهر شعبه ففتح باب الفساد الإداري الذي أطاح بالإمبراطورية في النهاية، وعبد الناصر أورث بلاده مؤسسة أمنية متوحشة.. فضلا عن أن الحاكم المستبد لا يستقر نظامه إلا بإزاحة وقمع أصحاب الرأي الحر والمعارضة المخلصة، فهو لا يخلّف بعده إلا بلدا خاويا من الرجال الأكفاء للحكم، بينما يترك خلفه بطانة سوء من أهل النفاق والمداهنة والانتفاع، فيلتقط أعداء الوطن الرسالة ويتكالبون على البلاد تكالب الضباع على جيفة الأسد.. وقد صدق من قال إن الطغاة هم مقدمة الغزاة.. هذه هي العاقبة الوحيدة التي لا يكلّ التاريخ ولا يمل من تذكيرنا بها، لعلنا نتعلم ونستوعب حقيقة أن الاستبداد والاستنارة لا يجتمعان في قلب حاكم، وأن الإنسان مهما كان مخلصا في خدمة وطنه من موقع القيادة فإنه في النهاية بشر قد يتحول إلى طاغية إذا تكالبت عليه وساوس شياطين الجن والإنس بأنه الزعيم الملهم الذي لا ينطق عن الهوى، خصوصا إذا وافق النجاح تحركاته الفردية، وليس منا من هو منزّه عن تلك الوساوس، فالله تعالى قد قال لنا: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُوْرَهَا وَتَقْوَاهَا}. وقديما أدرك الرومان هذه الحقيقة، فكانوا إذا ما أرادوا تكريم قائد منتصر وطافوا به الميادين أوقفوا خلفه عبدا يميل عليه كلما تعالى هتاف الجماهير باسمه هامسا في أذنه "تذكر أنك إنسان".. وها نحن الآن نحتاج إلى من يهمس في أذن كل منا إذا ما استبد به الإعجاب بزعيم سياسي أو صاحب قرار موفق، وأراد له أن يكون مستبده المستنير، "تذكر أنه إنسان"..