في القطار السريع، الذي يتابع رحلته بهدوء، وصوت عجلاته تلهث علي السكة الحديد، حاملأ ركابه متعددي الجنسيات بين أوروبيين وعرب، تقع الجريمة الغامضة التي تشيع الرعب، وتحبس أنفاس الركاب من الخوف والذهول، ثم يأتي المحقق الذي يضع احتمالاته التي تضع الجميع في دائرة الاتهام.. تتالي الأحداث، والقارئ لا يملك إلا أن يتابع الصفحات بكامل إحساسه بالإثارة التي تفرضها بثقة مخيلة أجاثا كريستي. إذ بعد مرور أعوام طويلة علي قراءة أجاثا كريستي، يكتشف من دخل عوالم كتبها، أن الحبكات الغامضة التي تحيكها هذه الكاتبة لا تزال عالقة في ذهنه، وأن ابتكارها لتلك الشخصيات الغامضة والمثيرة، وتحريكها عبر الرواية باتجاهات مختلفة، لاتزال تُذهل القارئ وتحرض دهشته.. إنها كاتبة ملكت سر جذب اهتمام القراء من جميع الثقافات، وتربعت علي عرش الرواية البوليسية الإنجليزية طوال نصف قرن دون مزاحمة، بل لا تزال كتبها عن الجريمة وألغازها الأكثر مبيعا في العالم، فقد بيعت أكثر من مليار نسخة من رواياتها التي ترجمت لأكثر من 103 لغات. يأتي الحديث عن أجاثا كريستي بمناسبة مرور مائة وعشرين عاماً علي ولادتها، وبهذه المناسبة اختارت مؤسسة السينما البريطانية الاحتفاء بالذكري ال120 لميلاد الكاتبة بطريقة مبتكرة؛ فقامت بنقل مقطورة من قطار "الأورينت إكسبرس" - قطار الشرق السريع - إلي باحة مجاورة لمركز عروض السينما، وفتحت المؤسسة بابه للمهتمين للتجول في أروقته، وتلمس جدرانه الخشبية، والجلوس علي مقاعده الفاخرة؛ آملة في أن تمكنهم هذه التجربة من محاكاة الحقبة التي عاشتها الكاتبة، خاصة أنها كانت تستخدم القطار في ترحالها، واختارت اسم القطار عنوانا لواحدة من أهم رواياتها: "جريمة في قطار الشرق السريع". وقد بنيت المقطورة في العام 1929 من القرن الماضي؛ أي خلال الفترة التي قامت أجاثا كريستي فيها برحلاتها في القطار، ونشرت عقبها الرواية، وقامت كبري شركات السينما العالمية بإنتاج أكثر من فيلم صور معظمها في القطار. لكن ما لا نعرفه عن أجاثا كريستي أنها كتبت أيضاً روايات رومانسية باسم مستعار هو: "ماري ويستماكوت"، لكنها لم تكمل في هذا الطريق؛ فقد كان لديها خيال جامح، يبرع في تخطي حواجز الجرائم، وتتبعها بلا كلل. تكتب بأسلوب شائق، قادر علي الاحتفاظ بالقارئ حتي الصفحات الأخيرة، حين تفاجئه بهوية المجرم التي تظل غير متوقعة علي مدار الصفحات. طريق الكتابة بدأ عند كريستي مع المرض؛ فالمرض في بعض الأحيان يكون طريقاً للإبداع، فقد أصيبت في طفولتها بمرض شديد؛ مما ألزمها البقاء في السرير، حينها قالت لها والدتها: "من الأفضل أن تكتبي قصة"، وحين قالت: "لا أعرف"، طلبت منها والدتها المحاولة، ومنذ ذلك الحين بدأت الطفلة في كتابة القصص. كانت في التاسعة والثلاثين من عمرها حين تزوجت من عالم آثار في السادسة والعشرين من عمره؛ طافت برفقته كثيرًا من البلدان التي دخلت في أحداث رواياتها، عاشت في بلاد الشام والعراق ومصر وبلاد فارس؛ مما أتاح لها فرصاً ممتازة لكتابة أجمل رواياتها وقصصها المليئة بالأسرار، المفعمة بالغموض، المعتمدة في جزء منها علي مواقع الحدث في بلاد الشرق الساحرة؛ فالقارئ يجد في رواياتها مواقعَ أثرية، مدنًا شرقية، معابدَ، قصورًا ذات طابع فريد، فنادقَ مميزة، قطارات أو طائرات، صحاري شاسعة، وأنهارًا قديمة. وذات مرة، خلال زياراتها المتكررة إلي سوريا برفقة زوجها الذي كان يعمل في أحد المواقع الأثرية في شمال شرق سورية، سكنت أجاثا كريستي في فندق بمدينة حلب وهو: (فندق بارون) الذي كان مقصدَ المشاهير، خاصة من أوروبا والقادمين علي متن قطار الشرق السريع إلي حلب، وهناك كتبت روايتها الشهيرة: (جريمة في قطار الشرق السريع)، أثناء مكوثها في حلب، ولا تزال ذكراها في إحدي زوايا الفندق العريق - فندق البارون - إلي اليوم. وفتنت كريستي بحلب، وعظمة قلعتها، وأسواقها الشرقية البديعة، وتجولت في التلال الأثرية في وسط وشرق سوريا، كما زارت الكاتبة مصر، ودرست حضارتها وتاريخها، وكتبت الرواية المعروفة (موت علي النيل) التي تحولت إلي مسرحية العام 1946؛ بعنوان: (جريمة قتل علي النيل)، كما كتبت الرواية الثانية: (الموت يأتي في النهاية)، وذلك العام 1945، كما كانت قد كتبت مسرحية (إخناتون) الملك المصري الذي فرض ديانة جديدة، وقد أعدت أجاثا كريستي لكتابة هذه المسرحية منذ زيارتها (الأقصر) - جنوب مصر - العام1931، واستعانت بخبرة علماء الآثار في رسم شخوص المسرحية التي أصدرتها إحدي دور النشر في العام1973. ومن المهم أن نعرف أن كريستي كانت قد انضمت - رسمياً - إلي بعثة التنقيب البريطانية في "نينوي" شمال العراق، ثمَّ إلي بعثة الأربجية العام 1932 برئاسة زوجها، وكانت إلي جانب جهدها التنقيبي، تجد الوقت الكافي للكتابة، حتَّي إنه حين لا يتوفر لها السكن في الموقع الأثري، تنصب لها خيمة خاصة بعيداً قليلاً عن ضجيج الحفر، وتلجأ إلي كتابة رواياتها وقصصها داخل الخيمة. وتتمتع كريستي بلغة سلسة، يحركها أسلوبها الشائق، مع تكنيك روائي بارع، فتنسج شخصيات رواياتها ببراعة؛ بحيث لا تترك شخصية تظهر في رواية لها دون أن توضح كل معالمها، كما تميزت أيضاً بأن أشخاص رواياتها أشخاص عاديون، ولكنهم تعرضوا في الرواية لظروف تقودهم للجريمة، وكان عملها أن تميط اللثام عن وجههم الحقيقي. لم تلجأ هذه الكاتبة للإثارة، ورواياتها تضمنت أيضاً أهدافاً إنسانية فحواها: أن (الجريمة لا تفيد)، وأن الخير هو المنتصر في النهاية. كتبت 85 رواية، وعاشت ما يقارب من ال81 عاماً؛ أي أن انتاجها الروائي ظل خصباً علي مدار حياتها المديدة.