لم يعد خافيًا علي أي من متتبعي فنون الرقصات الشعبية، أن جلها بمختلف أساليبها إنما هو نتاج بيئي، ذو ضرورة للتعبير العاطفي والروحي لمجتمعاتها، ومن تلك الفنون "رقص التنورة"، والذي يعبر من خلاله "الحاناتي" - الراقص المؤدي لهذا النوع من الرقصات - عما يجيش به من مشاعر؛ معتمدًا علي اللف والدوران حول الذات؛ مرتديا تنورة واحدة أو أكثر؛ مصنوعة من القماش الخشن ليتحمل الاستخدام الشاق له وتيارات الهواء المتدفقة أثناء الدوران، يستشعر خلالها الحاناتي أنه رمز الأرض "مركز الكون"، وهي تدور حول نفسها بينما تدور الكواكب الأخرى حولها، بينما طبقتا التنورة هما الأرض والسماء؛ ويكأن التنورة رمز للعالم قبل انفصال الأرض عن السماء وقبل بداية الخليقة، وبمجرد وصول الراقص لمرحلة خلع التنورات، فهذا يعني له أنه بذلك ارتقي وارتفع، بل إنه كلما تخلص من تنورة تخلص من تعلقه بالأرض ليتخلص تماما من الشق الأرضوي ليرقى إلى الشق السماوي، ليصل إلى النقاء التام وصفاء الروح. وعن الرقصة وارتباطها بالفكر الصوفي، فإنها قامت منذ نشأتها على الدوران حول النفس، في حركات ترمز إلى التعبد الصوفي الذي ساد في تركيا قبل عشرات السنين، لتحكي قصة ميلاد العالم، وتقدم معاني روحية عظيمة للانفكاك من قيود الأرض والتحليق في السماء وعقد الصلة معها.. إلا أن الروح الشعبية المصرية نجحت في إضفاء حالة خاصة على "التنورة"، لتحولها إلى فن استعراضي شعبي ينتظم على أنغام الموسيقى والفوانيس؛ لتصبح بذلك واحدة من أهم وأجمل الرقصات المصرية وأكثرها تعقيدا. لتستقطب – علي أثر ذلك - أنظار المشاهدين أينما حلت، في المهرجانات والاحتفالات العالمية المختلفة، ويبهر الراقصون جمهورهم بأدائهم المتقن وقدرتهم على الدوران المتوازن لمدة طويلة بلا توقف.. وفي هذا الصدد تجدر الإشارة إلي أن الدوران إنما يقوم على أسس معينة يتعلمها الراقصون في أكاديميات الفنون الشعبية والاستعراضية التي يدرسون بها، إضافة إلى الممارسة والتدريب المكثف، بيد أن الراقص يحتاج إلى تغذية جيدة حتى يستطيع أن يتوازن ويؤدي الرقص بطريقة أفضل. ولكن المتتبع لعروض رقصات التنورة، يتراءي له أن لكلٍ من راقصيها أسلوبه الخاص في التعبير عن نفسه ومشاعره خلال الرقص، فضلًا عن الحالة النفسية التي يعيشها الراقص، وكذلك بحسب الموسيقى المصاحبة له أثناء الرقص. التنورة التقليدية أما فيما يتعلق بتاريخ التنورة، فقد عرفت "التنورة" التقليدية بالجلباب الأبيض منذ أن بدأت في تركيا، إلى أن حلت على مصر ليغير المصريون الكثير من معالمها، فجعلوها حرة دون جلباب، وأضافوا لها الزخرفة والألوان لتتناسب مع الرقص الاستعراضي الذي انتشر مؤخرا.. وأطلقوا علي الديني منها اسم "المولوي".. وللطائفة "المولوية" تقاليدها الخاصة في طريقة لبسها وتوظيف حركاتها التعبيرية المصاحبة لآلات موسيقية بعينها، هذه التقاليد ثابتة ولم يحدث فيها أي تغيير ولم يمحها الزمن، ولم يحدث فيها أي تطور لا في اللبس ولا في الرقص ولا في الغناء ولا في الآلات الموسيقية المصاحبة. وفي معرضه "حركة ولون" الذي استضافته قاعة "دروب" مؤخرًا، بالقاهرة، قدم الفنان التشكيلي المصري طاهر عبد العظيم، رؤية جمالية تمزج بين اللون والحركة لرقصة "التنورة" الشهيرة، والتي تعد أحد الطقوس الصوفية شديدة الخصوصية. وحمل المعرض - الذي ضم نحو 37 لوحة - الروح الصوفية لدى راقصي "التنورة" في أجواء شديدة الارتباط بالتراث الإسلامي، مركزة على العمارة الشعبية والتراثية القديمة بالقاهرة. إلا أن درجات البطولة في لوحات عبد العظيم تختلف بين راقصي التنورة والعازفين؛ ليبقى اللون هو البطل الأقوى حضورا؛ ففي بعض اللوحات تركز ريشته على رسم الشخصيات الأساسية في فرقة التنورة؛ مثل: عازف الطبلة، أو لاعب الصاجات؛ ليحتل منصة البطولة في اللوحة، ويأتي اللون بطلا في حالات الدوران وتظهر الألوان جلية في الحالات الهادئة، ويشتد صخب اللون مع الحركات القوية للراقصين، فتبدو وكأن الفنان يدور ويتحرك بفرشاته مثل بطل لوحته؛ ليتعايش الفنان مع راقصي التنورة أنفسهم الذين يحركهم معتقد بأنهم يفعلون شيئًا يحمل روحانيات صوفية تنعكس عليهم وعلى أدائهم؛ لذلك نجده استطاع أن يظهر تعبير وشخصية كل راقص بشكل خاص. أما لوحات العمارة الشعبية، فقد غاص فيها الفنان في أعماق حواري القاهرة القديمة؛ مقدمًا تفاصيل البيوت والمشربيات والنوافذ، ليحتل هنا المكان مقعد البطولة، وتدور لوحات الحارة في المسافة بين شارع المعز بمساجده الأثرية التي قدم لها الفنان ثلاث لوحات، وبين قصر السلطان الغوري مكان إقامة عروض التنورة التراثية. وتميز المعرض بوضع بصمته الخاصة للون في لوحات المعرض، فعلى الرغم من تعبيره عن الألوان الزاهية والصريحة في ملابس راقصي التنورة، إلا أنه احتفظ بمجموعته اللونية الخاصة في أعماله متعايشا مع حالة هؤلاء الراقصين التي ترجمها تشكيليا ببراعة.