يبني الكاتب الأرجنتيني بيدرو ميرال في روايته “السنة المفقودة” قائمة/ لوحة لا نهائية تمتد على مدى فترة حياة الرسام الأبكم سالفاتييرا، حيث يدوّن ميغيل سيرة والده، ويَصف لوحاته بأنها سيرة ذاتية لا يظهر فيها صاحبها أبدا، فسالفاتييرا داوم الرسم يوميا على لفافة قماش طويلة تمتد لعدة كيلومترات، موثقا فيها سيرة حياته والأحداث السياسية والاجتماعيّة التي شهدها، فهي عالم خاص به يصنّفه ويرتبه على إيقاع ضربات ريشته، مجسّدا صورا ومشاهد من حياته يوما بيوم، ليؤرخ بالألوان خساراته وأفراحه. تجربة ميغيل في البحث عن عمل فني لا متناه يوشك على الاختفاء يقدمها لنا الكاتب الأرجنتيني بيدرو ميرال، لنقرأ سيرة فنان عصامي يغرق في صمت ملوّن على القماش، الرواية التي صدرت عام 2008 بعنوان “السنة المفقودة من حياة خوان سالفاتييرا” صدرت هذا العام بالعربية بعنوان “السنة المفقودة” عن دار مسكيلياني بترجمة أشرف القرقني. سيرة ذاتية ملونة نقرأ الرواية بصوت ميغيل الذي يحاول التواصل مع المعارض والمهتمين لنقل أثر والده الفني إلى متحف في أوروبا، لكن ميغيل يتورط في عوالم اللوحة/ اللفافة اللانهائية، فوالده الأبكم نذر حياته للرسم، رفض عرض عمله أو الظهور على وسائل الإعلام، بل حتى التوقيع على لوحاته، ما جعل الأساطير والحكايات تحاك حوله، ليبدو ميغيل وكأنه يكتب السيرة الموازية لوالده، فالأخير يرسم يوميا كناسك يخفي صلواته، منهمكا في عمله اللامتناهي كعورة لا يمكن كشفها، كيلومترات من القماش دُوّنت عليها وقائع حياته؛ سقوطه من فوق الحصان، أطفاله، حيوات مَن حوله، زوجته، موت ابنته، هو منغمس في رحلة/ لوحة مستمرة تجري كنهر دون انقطاع. يحضر لاحقا الخبراء كي يقوموا بنقل الأثر رقميا لتقديمه إلى المتحف في أمستردام، أثناء ذلك وإثر اندفاع ميغيل في عوالم اللوحة، نراه يكتشف أن هناك سنة مفقودة، حيث عام كامل من حياة والده لا يظهر في اللفافة، الهوس بالجزء المفقود يدفع ميغيل للبحث عنه مع أخيه، فدون هذه اللفافة لن يكتمل العمل، سيبقى الأثر مفتوحا إلى ما لانهاية، إذ لا بدّ من خاتمة لهذه الحياة التي تنساب بين الألوان وضربات الريشة. البحث عن اللفافة الضائعة أشبه برحلة في عوالم الصمت، فالرسام الأبكم فقد صوته، لكنه قرر توثيق حياته على الورق، ومحاولة تحويل هذه الحياة/ الأثر الفنّي إلى مُنتَج يراه الجميع تجعل التجربة الشخصية للفنان وعلاقته بعمله على المحك، إذ سيدخل ضمن أنظمة المؤسسات الفنيّة والتبادل الرمزي حيث “اللاصمت”، وخصوصا ما يرتبط بالقسم المفقود الذي سيكشف لغز النهاية، والجوانب الحميميّة من حياة سالفاتييرا التي صمت عنها بل وسمح بضياعها، لكن ما الذي يحاول سالفاتييرا إخفاءه؟ سيرة متخيّلة النتيجة التي يصل إليها ميغيل تذهله، إثر تتبعه لأصدقاء والده ومن عرفهم تمكن من الوصول إلى اللفافة، وإذا بها توثّق لخيانات وغراميات سالفاتييرا، ابنه غير الشرعي ومعشوقاته، لكن فجأة كما رحل سالفاتييرا سيرحل أثره معه، فأثناء محاولة ميغيل تهريب العمل إلى أوروبا وبعد اتفاقه مع المهرب، يعود لينقل اللفافات، وإذا بكل شيء قد احترق، اللفافة ذات الكيلومترات الأربعة أصبحت رمادا، العمل دخل في الصمت/ الغياب كسالفاتييرا الذي اختار أن يتوارى شخصا وأثرا، لكن لم تنجُ سوى خياناته، أما ما دار من تكهنات حول من أحرق اللفافات فهو غير مهم؛ الأصل أصبح عدما. الصيغة الرقمية التي تمثل النسخة عن الأصل من اللفافة بقيت محفوظة، إذ تمكن الخبراء الأوروبيون من الحفاظ عليها وعرضها للعلن بقاعة كبيرة في متحف أوروبي، وبالرغم من أنها طبق الأصل عن العمل، إلا أنها تفتقد لحيويته، هي العمل ذاته دون اللمسة الشخصية، نسخة مرقمنة لا تحمل في داخلها المعاناة اليوميّة المرتبطة بإنتاجها، هي أحد أعراض الحياة والمعاناة الفنيّة وليست أصلها، ليست نتاجها المباشر، الزمن لا يؤثر فيها، تبقى محايدة لا يمسّها الزمن الذي كان يمضي ساعة بعد ساعة ويؤثر في اللفافة ضمن كل ثانية وثّقها سالفاتييرا. تعتمد الرواية على تقنيات ما بعد الحداثة، فالسرد يدور حول محور يتلاشى، هي حكاية عن حكاية قيد التكشّف، لا يلبث الأصل فيها (اللوحة) أن يختفي، فنحن نقرأ محاولة للإمساك سرديا بتفاصيل عمل فني آخر يغوص في اللانهاية إلى حدّ التلاشي، وأمام راوٍ يحاول تلمّس ما لا تمكن الإحاطة به من سيرة والده الغامضة، التي يشك هو نفسه في بعض تفاصيلها. وبعكس سالفاتييرا الذي قرر الصمت، نرى “أثره” يبوح بكل شيء، حتى أنه يصف ما لم يره، حياة ابنه وأول سيجارة دخنها والفتاة التي أحبها، ما جعل السرد على لسان الراوي يفقد حياده، ليرى نفسه منساقا وراء عوالم جديدة، تصوراته عن نفسه وعمّن حوله تخضع لمحاكمات جديدة، الماضي وما ظن نفسه أنه يعرفه يخضع للمحاكمة بسبب ما يراه في اللوحة، فالفنان الأبكم الذي قرر أن يسيل بريشته مع الزمن، لا يعود إلى الوراء لتصحيح شيء ما قد رسمه، أما ميغيل، فماضيه الجديد ينساب مع اللفافة، وكأن الماضي فقد مرجعيته الشخصية لدى ميغيل الذي يعجز عن تغييره، بل نراه يراقب ماضيه يُكتب من جديد عبر ضربات ريشة والده. يبني الكاتب الأرجنتيني بيدرو ميرال في روايته “السنة المفقودة” قائمة/ لوحة لا نهائية تمتد على مدى فترة حياة الرسام الأبكم سالفاتييرا، حيث يدوّن ميغيل سيرة والده، ويَصف لوحاته بأنها سيرة ذاتية لا يظهر فيها صاحبها أبدا، فسالفاتييرا داوم الرسم يوميا على لفافة قماش طويلة تمتد لعدة كيلومترات، موثقا فيها سيرة حياته والأحداث السياسية والاجتماعيّة التي شهدها، فهي عالم خاص به يصنّفه ويرتبه على إيقاع ضربات ريشته، مجسّدا صورا ومشاهد من حياته يوما بيوم، ليؤرخ بالألوان خساراته وأفراحه. تجربة ميغيل في البحث عن عمل فني لا متناه يوشك على الاختفاء يقدمها لنا الكاتب الأرجنتيني بيدرو ميرال، لنقرأ سيرة فنان عصامي يغرق في صمت ملوّن على القماش، الرواية التي صدرت عام 2008 بعنوان “السنة المفقودة من حياة خوان سالفاتييرا” صدرت هذا العام بالعربية بعنوان “السنة المفقودة” عن دار مسكيلياني بترجمة أشرف القرقني. سيرة ذاتية ملونة نقرأ الرواية بصوت ميغيل الذي يحاول التواصل مع المعارض والمهتمين لنقل أثر والده الفني إلى متحف في أوروبا، لكن ميغيل يتورط في عوالم اللوحة/ اللفافة اللانهائية، فوالده الأبكم نذر حياته للرسم، رفض عرض عمله أو الظهور على وسائل الإعلام، بل حتى التوقيع على لوحاته، ما جعل الأساطير والحكايات تحاك حوله، ليبدو ميغيل وكأنه يكتب السيرة الموازية لوالده، فالأخير يرسم يوميا كناسك يخفي صلواته، منهمكا في عمله اللامتناهي كعورة لا يمكن كشفها، كيلومترات من القماش دُوّنت عليها وقائع حياته؛ سقوطه من فوق الحصان، أطفاله، حيوات مَن حوله، زوجته، موت ابنته، هو منغمس في رحلة/ لوحة مستمرة تجري كنهر دون انقطاع. يحضر لاحقا الخبراء كي يقوموا بنقل الأثر رقميا لتقديمه إلى المتحف في أمستردام، أثناء ذلك وإثر اندفاع ميغيل في عوالم اللوحة، نراه يكتشف أن هناك سنة مفقودة، حيث عام كامل من حياة والده لا يظهر في اللفافة، الهوس بالجزء المفقود يدفع ميغيل للبحث عنه مع أخيه، فدون هذه اللفافة لن يكتمل العمل، سيبقى الأثر مفتوحا إلى ما لانهاية، إذ لا بدّ من خاتمة لهذه الحياة التي تنساب بين الألوان وضربات الريشة. البحث عن اللفافة الضائعة أشبه برحلة في عوالم الصمت، فالرسام الأبكم فقد صوته، لكنه قرر توثيق حياته على الورق، ومحاولة تحويل هذه الحياة/ الأثر الفنّي إلى مُنتَج يراه الجميع تجعل التجربة الشخصية للفنان وعلاقته بعمله على المحك، إذ سيدخل ضمن أنظمة المؤسسات الفنيّة والتبادل الرمزي حيث “اللاصمت”، وخصوصا ما يرتبط بالقسم المفقود الذي سيكشف لغز النهاية، والجوانب الحميميّة من حياة سالفاتييرا التي صمت عنها بل وسمح بضياعها، لكن ما الذي يحاول سالفاتييرا إخفاءه؟ سيرة متخيّلة النتيجة التي يصل إليها ميغيل تذهله، إثر تتبعه لأصدقاء والده ومن عرفهم تمكن من الوصول إلى اللفافة، وإذا بها توثّق لخيانات وغراميات سالفاتييرا، ابنه غير الشرعي ومعشوقاته، لكن فجأة كما رحل سالفاتييرا سيرحل أثره معه، فأثناء محاولة ميغيل تهريب العمل إلى أوروبا وبعد اتفاقه مع المهرب، يعود لينقل اللفافات، وإذا بكل شيء قد احترق، اللفافة ذات الكيلومترات الأربعة أصبحت رمادا، العمل دخل في الصمت/ الغياب كسالفاتييرا الذي اختار أن يتوارى شخصا وأثرا، لكن لم تنجُ سوى خياناته، أما ما دار من تكهنات حول من أحرق اللفافات فهو غير مهم؛ الأصل أصبح عدما. الصيغة الرقمية التي تمثل النسخة عن الأصل من اللفافة بقيت محفوظة، إذ تمكن الخبراء الأوروبيون من الحفاظ عليها وعرضها للعلن بقاعة كبيرة في متحف أوروبي، وبالرغم من أنها طبق الأصل عن العمل، إلا أنها تفتقد لحيويته، هي العمل ذاته دون اللمسة الشخصية، نسخة مرقمنة لا تحمل في داخلها المعاناة اليوميّة المرتبطة بإنتاجها، هي أحد أعراض الحياة والمعاناة الفنيّة وليست أصلها، ليست نتاجها المباشر، الزمن لا يؤثر فيها، تبقى محايدة لا يمسّها الزمن الذي كان يمضي ساعة بعد ساعة ويؤثر في اللفافة ضمن كل ثانية وثّقها سالفاتييرا. تعتمد الرواية على تقنيات ما بعد الحداثة، فالسرد يدور حول محور يتلاشى، هي حكاية عن حكاية قيد التكشّف، لا يلبث الأصل فيها (اللوحة) أن يختفي، فنحن نقرأ محاولة للإمساك سرديا بتفاصيل عمل فني آخر يغوص في اللانهاية إلى حدّ التلاشي، وأمام راوٍ يحاول تلمّس ما لا تمكن الإحاطة به من سيرة والده الغامضة، التي يشك هو نفسه في بعض تفاصيلها. وبعكس سالفاتييرا الذي قرر الصمت، نرى “أثره” يبوح بكل شيء، حتى أنه يصف ما لم يره، حياة ابنه وأول سيجارة دخنها والفتاة التي أحبها، ما جعل السرد على لسان الراوي يفقد حياده، ليرى نفسه منساقا وراء عوالم جديدة، تصوراته عن نفسه وعمّن حوله تخضع لمحاكمات جديدة، الماضي وما ظن نفسه أنه يعرفه يخضع للمحاكمة بسبب ما يراه في اللوحة، فالفنان الأبكم الذي قرر أن يسيل بريشته مع الزمن، لا يعود إلى الوراء لتصحيح شيء ما قد رسمه، أما ميغيل، فماضيه الجديد ينساب مع اللفافة، وكأن الماضي فقد مرجعيته الشخصية لدى ميغيل الذي يعجز عن تغييره، بل نراه يراقب ماضيه يُكتب من جديد عبر ضربات ريشة والده.