رئيس الوزراء يتابع استعدادات مؤتمر الاستثمار مع الاتحاد الأوروبي    لجنة حماية الصحفيين: نشعر بالقلق جراء إفلات إسرائيل من العقاب    أرتيتا يعلن تشكيل آرسنال أمام مانشستر يونايتد    الصحفيين تعلن فتح باب الحجز لعدد 75 وحدة سكنية فى مدينة السادس من أكتوبر    تأهل 4 لاعبين مصريين للجولة الثالثة من بطولة CIB العالم للإسكواش المقامة بنادي بالم هيلز    "العيد فرحة وأجمل فرحة".. موعد عيد الاضحى المبارك حسب معهد البحوث الفلكية 2024    إصابة 8 أشخاص في انقلاب ميكروباص بترعة الإبراهيمية ببني سويف    «إعلام النواب» توافق على موازنة «الوطنية للصحافة».. و«الشوربجي»: لدينا ديون سيادية وضرائب متراكمة منذ الثمانينيات    التقديم 18 مايو.. الشروط والأوراق المطلوبة للتقديم ب"معهد معاوني الأمن"    مودرن فيوتشر يعلن رحيل تامر مصطفى من تدريب الفريق    حُسم الأمر.. وكيل ليفاندوفسكي يعلن مصيره النهائي    مصر تدعم دعوى جنوب أفريقيا ضد الانتهاكات الإسرائيلية أمام العدل الدولية    الدفاع الروسية: إسقاط 6 مروحيات و36 مسيرة للقوات الأوكرانية وتحرير 4 بلدات بخاركوف    قصور الثقافة تقدم 20 عرضا مجانيا في موسم المسرحي بالزقازيق وكفر الشيخ    المفتي يحذر الحجاج: «لا تنشغلوا بالتصوير والبث المباشر»    لحماية صحتك.. احذر تناول البطاطس الخضراء وذات البراعم    الصحة: الجلطات عرض نادر للقاح أسترازينيكا    مجلس الشيوخ يقف دقيقة حدادًا على النائب الراحل عبد الخالق عياد    مظاهرات الجامعات توقظ ضمير العالم    هاني سعيد عميدا لكلية التربية الرياضية بجامعة طنطا    إعلان خلو مقعد الراحل عبد الخالق عياد من الشيوخ وإخطار الوطنية للانتخابات    هشام آمنة: 256 مليون جنيه لتطوير منظومة إدارة المخلفات بالمنوفية    هل تصنع بروميتيون العالمية إطارات السيارات الملاكي في مصر؟    الإطاحة بتامر مصطفى.. قرار عاجل بتولي طلعت يوسف تدريب فيوتشر    المندوه يكشف كواليس الساعات الأخيرة للبعثة قبل نهائى الكونفدرالية.. فيديو    البورصة تخسر 25 مليار جنيه في ختام تعاملات أول الأسبوع    مواعيد امتحانات كليات جامعة حلوان الفصل الثاني 2024    مصرع شاب أسفل عجلات القطار بالمحلة الكبرى    إخماد حريق شب فى سيارة بجوار بنزينة فى أسوان    ضبط دقيق مدعم وكراتين سجائر قبل بيعها بالسوق السوداء في المنيا    تأجيل محاكمة المتهمين بقتل سائق توك توك وسرقته في الفيوم لعدم حضور الشهود    في العالمي للتمريض، الصحة: زيادة بدل مخاطر المهن الطبية    الآثار تنظم سلاسل فعاليات ومعارض مؤقتة بالمتاحف احتفالا بهذه المناسبة    رئيس اليونان تزور المتحف اليوناني الروماني بالإسكندرية (صور)    المشاهد الأولى لنزوح جماعي من مخيم جباليا شمال غزة هربا من الاجتياح الإسرائيلي    جامعة الأقصر تخطط لإنشاء مستشفى وكليتي هندسة وطب أسنان    بعد توجيهات الرئيس بتجديدها.. نقيب الأشراف: مساجد آل البيت أصبحت أكثر جذبا للزائرين    الدفاع المدني في غزة: خسرنا أكثر من 80% من قدراتنا    ارتفاع حصيلة ضحايا الفيضانات بأفغانستان إلى 315 شخصًا    مجلس الجامعات الخاصة يكشف قرب الانتهاء من إنشاء 7 مستشفيات    8 نصائح لتقليل خطر الإصابة بسرطان المبيض    في يومه العالمي.. هيئة الدواء توضح 3 توصيات من «الصحة العالمية» بشأن التمريض    لا يفقهون شيئا: تين هاج يفتح النار على المطالبون بإقالته    بايرن ميونخ يستهدف التعاقد مع مدرب "مفاجأة"    تطورات قضية زوج المذيعة أميرة شنب.. وقرار جديد من المحكمة    kingdom planet of the apes على قمة شباك تذاكر الأفلام الأجنبية في مصر (بالأرقام)    بعد ظهورها بملابس عروس.. لقاء سويدان تتصدر مؤشر جوجل    «الداخلية»: ضبط 4 عاطلين بتهمة سرقة أحد المواقع في أسوان    إيرادات مفاجئة لأحدث أفلام هنا الزاهد وهشام ماجد في السينما (بالتفاصيل والأرقام)    مسؤولون: «34 ألف فلسطيني بينهم 14 ألف طفل قُتلوا بذخائر أمريكية»    بنك ناصر يطرح منتج "فاتحة خير" لتمويل المشروعات المتناهية الصغر    أسيوط: إزالة 8 تعديات على أراضي زراعية ومخالفات بناء بمراكز أسيوط وصدفا وحي شرق    مدبولي: نراقب الدين العام ووضعنا قيودا على النفقات الحكومية    الإفتاء: توضح حكم سرقة التيار الكهربائي    إسلام بحيري يرد على سبب تسميه مركز "تكوين الفكر العربي" ومطالب إغلاقه    الرئيس السيسى من مسجد السيدة زينب: ربنا أكرم مصر بأن تكون الأمان لآل بيت النبى    الصحة: تطوير وتحديث طرق اكتشاف الربو وعلاجه    عمرو أديب ل إسلام بحيري: الناس تثق في كلام إبراهيم عيسى أم محمد حسان؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جدل الواقع والفنتازيا في " تاكسي أبيض "
نشر في صوت البلد يوم 17 - 03 - 2016

يوظف القاص المصري شريف عبدالمجيد الدالين المألوفين «تاكسي/ أبيض» والمستخدمين بكثرة في الحياة اليومية للمصريين، عنواناً لمجموعته القصصية «تاكسي أبيض» (الدار المصرية اللبنانية)، مداعباً الوجدان الشعبي، فالمفردتان المعتادتان لدى عموم المصريين والمعبرتان عن سياق معين، يضعهما أيضاً عنواناً للقصة الأولى في القسم الثاني من المجموعة التي تتشكل من قسمين أساسيين، الأول: القبض على سمكة، والثاني: غرافيتي. ويتشكل كل قسم من قسمي المجموعة المركزيين من سبع قصص، كما أن هناك تقارباً في الحيز الكمي من متن السرد بين القسمين، وبما يعني أن ثمة استراتيجية في القص على المستوى البنائي للمجموعة. يصدر الكاتب مجموعته بتصدير دال يحيل فيه إلى الكاتب الشهير فرانز كافكا، فيورد مقطعاً من قصته «سور الصين العظيم»، ويحمل التصدير هنا إحالة مهمة إلى هذا العالم الكابوسي الذي اختطه كافكا، وبدت فيه الفنتازيا أساساً في فهم العالم وتقديمه، وبما يتصل بطريقة أو بأخرى بالعوالم الحاضرة في المجموعة والمهيمنة على فضائها القصصي، وبما يتصل أيضاً بوجود تماس ما بين العبث والفنتازيا، بخاصة في الاعتماد على التخييل من جهة والاتكاء في أحايين كثيرة على تقنية الحلم.
بين السياسي والفني
في قصته المركزية «تاكسي أبيض» ثمة تماس مع الراهن، وجدل بين السياسي والفني، حيث يرصد القاص عالماً مسكوناً بالخوف والتربص، يلتقي فيه ثلاثة أشخاص بلا اتفاق، راكبين «التاكسي الأبيض»، لتبدو التمايزات بينهم حاضرة وبقوة. واللافت أن الكاتب يعتمد في نصه على تفعيل المنطق الديموقراطي للسرد، فنرى زوايا نظر متعددة للحدث السردي، فكل من السائق والمرأة المنتقبة والرجل الليبرالي يحكي بطريقته ما يراه، ويبدي خوفاً من الآخر، لينتهي الأمر باستمرار التاكسي في سيره، في إشارة بالغة الدلالة.
تهيمن الفنتازيا على أجواء القسم الأول وسياقاته الفنية الدالة، وتلوح منذ القصة الأولى (الطرد)، حيث ثمة مسؤول حكومي يجد طرداً أمام بيته فيصيبه الهلع، خصوصاً أن الطرد عبارة عن جمجمة لشاب في العقد الثالث من عمره، ثم تتواتر الجماجم، وتنتشر في الشوارع، وعلى أبواب البيوت، وإمعاناً في الخيال صار الناس يدفنون ذويهم في أماكن سرية، خشية سرقة جماجمهم. وتبرز في نهاية القصة أصوات ثلاثة: رجل دين/ رجل أمن/ عالم اجتماع: «قال رجل دين: هذا غضب من الله. قال رجل أمن: هذا تسيُب واضح. قال عالم اجتماع: إنها ثورة الجياع. وتمثل الأصوات الثلاثة علامة على أنساق التفكير المختلفة داخل المجتمع المصري، فرجل الدين يرمز إلى نمط التفكير الديني/ الغيبي، ورجل الأمن يركز على نمط التفكير السلطوي، وعالم الاجتماع يرمز إلى نمط التفكير العلمي، وإن بدا مغرقاً في استشرافه واقعاً كابوسياً. أما المدهش حقاً فهو توالي الطرود وعدم توقفها رغم كل التغييرات السياسية التي طاولت الحكومة والبرلمان، وبما يعني أن القاص يومئ من طرف بعيد إلى حتمية التغيير الجذري. يعتمد عبدالمجيد في قصة «العمل» على توظيف «العجائبي» في الكتابة، عبر ذكر جانب من العوالم الخفية للجن والعفاريت، واستخدام تيمة شعبية تتعلق بالسحر والأعمال السفلية.
ومن ثم يبدو العنوان ذا بنية دالة قادرة على تأدية وظيفة داخل المسار السردي للقصة، فهو يعبر عن أزمتها وذروة تعقدها، فثمة امرأة تعتقد أن جارتها قد صنعت لها «عملاً»، وأن هذا «العمل» كان السبب في عدم زواجها رغم جمالها وأنوثتها الطاغية، وأن الغيرة والحقد دفعا الجارة إلى فعل ذلك. يختار القاص شخصيته المركزية بعناية، فثمة سيدة تؤمن بالميتافيزيقا، وتتوقف حياتها على الخلاص من الفخ الذي نصبته لها الجارة، فضلاً عن حضور واعد للجانب السوريالي هنا، فالشخصية المركزية في قصة «العمل» تحركها الهواجس، والنزعات اللاشعورية، ويتشكل النص من مدخل يعقبه خمسة مقاطع أساسية، وتتخذ المقاطع عناوين فرعية دالة على التفصيلات المختلفة في الحكاية، وهي: (في البدء كان العداء/ الحياة من دون عدو لا طعم لها/ الغريب يدخل العمارة/ الحقيقة تظهر مهما مرَّ عليها الزمن/ الجنون لا ينهي الحكايات).
وتمنح صيغة التقسيم المقطعي للنص حرية الحراك السردي للكاتب، كما تمنح القصة نفسها بُعداً أعمق. تقدم قصة «العمل» إطاراً جمالياً للسؤال المتجدد: كيف تخلق الأسطورة؟ فالسيدة العجوز التي قبض عليها البوليس لنبشها قبر جارتها، تتواتر الحكايات بشأنها حتى تحولها إلى قديسة نبيلة لم تحتمل فراق جارتها القديمة، حتى اللَّحّاد لم يصدقوه حين ذكر ما رآه من نبش المرأة قبر جارتها. أما المرأة ذاتها، فقد هربت من المستشفى لتتطاير الشائعات حولها، فتنزلها إلى مرتبة القديسين والأولياء. أما المفارقة الساخرة حقاً والتي تصل بالبعد الفنتازي إلى منتهاه، فتتمثل في تبرك النساء الباحثات عن الزواج والإنجاب بسيدة لم تتزوج قط، ومن ثم لم تعرف معنى الإنجاب!
التخييلي والواقعي
يمتزج التخييلي بالواقعي في قصة «طير الأبابيل»، فثمة بطل لا يعرف هل هو في حلم أم في حقيقة، ففي غرفة التحقيقات تتبدل الأشياء جميعها، وتتسع مساحة الفنتازيا، فالمحقق هو ذاته الصيدلي المقتول، ونادل المكان هو عينه أحد مثيري الفوضى في الشارع. ثم تدخل القصة في أفق مختلف، يعيدها إلى المستوى الواقعي، حين تبدو مقدمة بوصفها قصة لأحد الأفلام السينمائية، لكن صانعي الفيلم لا يتورعون عن إفساد روح القصة، ومن ثم إفساد خيالها الخصب.
في «القبض على سمكة» يهيمن المنطق الفنتازي، فثمة «سمكة قرش» تظهر في البحر، وتهاجم السائحين، ويصبح حضور هذه السمكة مفجراً لعدد من الأسئلة في النص، وإبرازاً لروح فنتازية تسيطر على الحكاية من أولها إلى آخرها، حيث تصبح السمكة الشاغل الرئيسي للكل، أملاً في القبض عليها. ويوظف الكاتب آلية السخرية، كما تتسع مساحات الفنتازيا حين يتم التعامل مع السمكة بوصفها جزءاً من مؤامرة تقوم بها أطراف دولية، توظف السمكة لحسابها، خصوصاً أنه قد تمَّ في الوقت ذاته القبض على طائر.
في قصة «السيد الذي لا يحب الطيور»، يعارض شريف عبدالمجيد الموروث الشعبي، حين يجعل بطله يتشاءم من إلقاء الطيور روثها فوقه، واللافت أن الكاتب لم يطلق اسماً محدداً على شخصيته القصصية، وبما يشي بأن ثمة رغبة في إعطاء الفكرة ذاتها دوراً أكبر داخل المسار السردي للنص، وقد رسم القاص شخصيته القصصية جيداً، بأبعادها الثلاثة: الجسدية والنفسية والاجتماعية، وتأتي النهاية متسقة مع منطق النص، حيث تلوح النهاية المأسوية العبثية من جديد، فبعد أن يستبد بالرجل الجنون، حيث يخرج كل ليلة ليطلق النيران من فوق سطح منزله على الطيور التي تتحرك في السماء، يطلق الرصاص ذاته على زوجته ووالدها حين حدثاه في أمر الطيور.
في «اعترافات سارق الونش»، تتواتر الإشارات التي يسوقها السارد عن جملة من السرقات اليومية التي يعج بها راهننا المعيش، من السرقة الواقعية للوحة زهرة الخشخاش إلى السرقة المتخيلة للهرم الأكبر، في مسار سردي يشبه في جانب من القصة ما يسمى في الدراما ب «المسرحية الأوتشركية»، حيث نرى حالاً من الريبورتاج الدرامي ذي الصبغة الصحافية مستخدماً في بعض المقاطع السردية.
يهيمن المذهب الواقعي على القسم الثاني من المجموعة، حيث تتماس قصصه السبع مع الراهن المعيش من خلال كتابة تحوي نزوعاً أيديولوجياً واضحاً نراه ماثلاً في قصة «جرافيتي»، التي تحيل إلى فن الجرافيتي المرتبط بالثورة المصرية والمعبر عنها في آن، ومن ثم نرى ارتحالاً زمانياً ومكانياً إلى الأماكن الأولى للثورة، فتحضر مدينة السويس، كما يوظف الكاتب آلية التداخل الزمني في النص توظيفاً دالاً.
يوظف القاص المصري شريف عبدالمجيد الدالين المألوفين «تاكسي/ أبيض» والمستخدمين بكثرة في الحياة اليومية للمصريين، عنواناً لمجموعته القصصية «تاكسي أبيض» (الدار المصرية اللبنانية)، مداعباً الوجدان الشعبي، فالمفردتان المعتادتان لدى عموم المصريين والمعبرتان عن سياق معين، يضعهما أيضاً عنواناً للقصة الأولى في القسم الثاني من المجموعة التي تتشكل من قسمين أساسيين، الأول: القبض على سمكة، والثاني: غرافيتي. ويتشكل كل قسم من قسمي المجموعة المركزيين من سبع قصص، كما أن هناك تقارباً في الحيز الكمي من متن السرد بين القسمين، وبما يعني أن ثمة استراتيجية في القص على المستوى البنائي للمجموعة. يصدر الكاتب مجموعته بتصدير دال يحيل فيه إلى الكاتب الشهير فرانز كافكا، فيورد مقطعاً من قصته «سور الصين العظيم»، ويحمل التصدير هنا إحالة مهمة إلى هذا العالم الكابوسي الذي اختطه كافكا، وبدت فيه الفنتازيا أساساً في فهم العالم وتقديمه، وبما يتصل بطريقة أو بأخرى بالعوالم الحاضرة في المجموعة والمهيمنة على فضائها القصصي، وبما يتصل أيضاً بوجود تماس ما بين العبث والفنتازيا، بخاصة في الاعتماد على التخييل من جهة والاتكاء في أحايين كثيرة على تقنية الحلم.
بين السياسي والفني
في قصته المركزية «تاكسي أبيض» ثمة تماس مع الراهن، وجدل بين السياسي والفني، حيث يرصد القاص عالماً مسكوناً بالخوف والتربص، يلتقي فيه ثلاثة أشخاص بلا اتفاق، راكبين «التاكسي الأبيض»، لتبدو التمايزات بينهم حاضرة وبقوة. واللافت أن الكاتب يعتمد في نصه على تفعيل المنطق الديموقراطي للسرد، فنرى زوايا نظر متعددة للحدث السردي، فكل من السائق والمرأة المنتقبة والرجل الليبرالي يحكي بطريقته ما يراه، ويبدي خوفاً من الآخر، لينتهي الأمر باستمرار التاكسي في سيره، في إشارة بالغة الدلالة.
تهيمن الفنتازيا على أجواء القسم الأول وسياقاته الفنية الدالة، وتلوح منذ القصة الأولى (الطرد)، حيث ثمة مسؤول حكومي يجد طرداً أمام بيته فيصيبه الهلع، خصوصاً أن الطرد عبارة عن جمجمة لشاب في العقد الثالث من عمره، ثم تتواتر الجماجم، وتنتشر في الشوارع، وعلى أبواب البيوت، وإمعاناً في الخيال صار الناس يدفنون ذويهم في أماكن سرية، خشية سرقة جماجمهم. وتبرز في نهاية القصة أصوات ثلاثة: رجل دين/ رجل أمن/ عالم اجتماع: «قال رجل دين: هذا غضب من الله. قال رجل أمن: هذا تسيُب واضح. قال عالم اجتماع: إنها ثورة الجياع. وتمثل الأصوات الثلاثة علامة على أنساق التفكير المختلفة داخل المجتمع المصري، فرجل الدين يرمز إلى نمط التفكير الديني/ الغيبي، ورجل الأمن يركز على نمط التفكير السلطوي، وعالم الاجتماع يرمز إلى نمط التفكير العلمي، وإن بدا مغرقاً في استشرافه واقعاً كابوسياً. أما المدهش حقاً فهو توالي الطرود وعدم توقفها رغم كل التغييرات السياسية التي طاولت الحكومة والبرلمان، وبما يعني أن القاص يومئ من طرف بعيد إلى حتمية التغيير الجذري. يعتمد عبدالمجيد في قصة «العمل» على توظيف «العجائبي» في الكتابة، عبر ذكر جانب من العوالم الخفية للجن والعفاريت، واستخدام تيمة شعبية تتعلق بالسحر والأعمال السفلية.
ومن ثم يبدو العنوان ذا بنية دالة قادرة على تأدية وظيفة داخل المسار السردي للقصة، فهو يعبر عن أزمتها وذروة تعقدها، فثمة امرأة تعتقد أن جارتها قد صنعت لها «عملاً»، وأن هذا «العمل» كان السبب في عدم زواجها رغم جمالها وأنوثتها الطاغية، وأن الغيرة والحقد دفعا الجارة إلى فعل ذلك. يختار القاص شخصيته المركزية بعناية، فثمة سيدة تؤمن بالميتافيزيقا، وتتوقف حياتها على الخلاص من الفخ الذي نصبته لها الجارة، فضلاً عن حضور واعد للجانب السوريالي هنا، فالشخصية المركزية في قصة «العمل» تحركها الهواجس، والنزعات اللاشعورية، ويتشكل النص من مدخل يعقبه خمسة مقاطع أساسية، وتتخذ المقاطع عناوين فرعية دالة على التفصيلات المختلفة في الحكاية، وهي: (في البدء كان العداء/ الحياة من دون عدو لا طعم لها/ الغريب يدخل العمارة/ الحقيقة تظهر مهما مرَّ عليها الزمن/ الجنون لا ينهي الحكايات).
وتمنح صيغة التقسيم المقطعي للنص حرية الحراك السردي للكاتب، كما تمنح القصة نفسها بُعداً أعمق. تقدم قصة «العمل» إطاراً جمالياً للسؤال المتجدد: كيف تخلق الأسطورة؟ فالسيدة العجوز التي قبض عليها البوليس لنبشها قبر جارتها، تتواتر الحكايات بشأنها حتى تحولها إلى قديسة نبيلة لم تحتمل فراق جارتها القديمة، حتى اللَّحّاد لم يصدقوه حين ذكر ما رآه من نبش المرأة قبر جارتها. أما المرأة ذاتها، فقد هربت من المستشفى لتتطاير الشائعات حولها، فتنزلها إلى مرتبة القديسين والأولياء. أما المفارقة الساخرة حقاً والتي تصل بالبعد الفنتازي إلى منتهاه، فتتمثل في تبرك النساء الباحثات عن الزواج والإنجاب بسيدة لم تتزوج قط، ومن ثم لم تعرف معنى الإنجاب!
التخييلي والواقعي
يمتزج التخييلي بالواقعي في قصة «طير الأبابيل»، فثمة بطل لا يعرف هل هو في حلم أم في حقيقة، ففي غرفة التحقيقات تتبدل الأشياء جميعها، وتتسع مساحة الفنتازيا، فالمحقق هو ذاته الصيدلي المقتول، ونادل المكان هو عينه أحد مثيري الفوضى في الشارع. ثم تدخل القصة في أفق مختلف، يعيدها إلى المستوى الواقعي، حين تبدو مقدمة بوصفها قصة لأحد الأفلام السينمائية، لكن صانعي الفيلم لا يتورعون عن إفساد روح القصة، ومن ثم إفساد خيالها الخصب.
في «القبض على سمكة» يهيمن المنطق الفنتازي، فثمة «سمكة قرش» تظهر في البحر، وتهاجم السائحين، ويصبح حضور هذه السمكة مفجراً لعدد من الأسئلة في النص، وإبرازاً لروح فنتازية تسيطر على الحكاية من أولها إلى آخرها، حيث تصبح السمكة الشاغل الرئيسي للكل، أملاً في القبض عليها. ويوظف الكاتب آلية السخرية، كما تتسع مساحات الفنتازيا حين يتم التعامل مع السمكة بوصفها جزءاً من مؤامرة تقوم بها أطراف دولية، توظف السمكة لحسابها، خصوصاً أنه قد تمَّ في الوقت ذاته القبض على طائر.
في قصة «السيد الذي لا يحب الطيور»، يعارض شريف عبدالمجيد الموروث الشعبي، حين يجعل بطله يتشاءم من إلقاء الطيور روثها فوقه، واللافت أن الكاتب لم يطلق اسماً محدداً على شخصيته القصصية، وبما يشي بأن ثمة رغبة في إعطاء الفكرة ذاتها دوراً أكبر داخل المسار السردي للنص، وقد رسم القاص شخصيته القصصية جيداً، بأبعادها الثلاثة: الجسدية والنفسية والاجتماعية، وتأتي النهاية متسقة مع منطق النص، حيث تلوح النهاية المأسوية العبثية من جديد، فبعد أن يستبد بالرجل الجنون، حيث يخرج كل ليلة ليطلق النيران من فوق سطح منزله على الطيور التي تتحرك في السماء، يطلق الرصاص ذاته على زوجته ووالدها حين حدثاه في أمر الطيور.
في «اعترافات سارق الونش»، تتواتر الإشارات التي يسوقها السارد عن جملة من السرقات اليومية التي يعج بها راهننا المعيش، من السرقة الواقعية للوحة زهرة الخشخاش إلى السرقة المتخيلة للهرم الأكبر، في مسار سردي يشبه في جانب من القصة ما يسمى في الدراما ب «المسرحية الأوتشركية»، حيث نرى حالاً من الريبورتاج الدرامي ذي الصبغة الصحافية مستخدماً في بعض المقاطع السردية.
يهيمن المذهب الواقعي على القسم الثاني من المجموعة، حيث تتماس قصصه السبع مع الراهن المعيش من خلال كتابة تحوي نزوعاً أيديولوجياً واضحاً نراه ماثلاً في قصة «جرافيتي»، التي تحيل إلى فن الجرافيتي المرتبط بالثورة المصرية والمعبر عنها في آن، ومن ثم نرى ارتحالاً زمانياً ومكانياً إلى الأماكن الأولى للثورة، فتحضر مدينة السويس، كما يوظف الكاتب آلية التداخل الزمني في النص توظيفاً دالاً.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.