رُبما يكون أسوأ ما اقترفه الكبارُ في حقِّ طفولتنا هو غزونا بالإيمان بالنهايات السعيدة من كُل جانب، فالأميرُ ينجحُ دائمًا بانتشالِ الأميرةِ من القَبوِ المُظلم الى أعلى النور، والأبطال جميعهم يطعنون الشر في خاصرته ليتدفقَ للعالم سيول الخيرِ والسعادة، وإن أتممنا الواجب على أكمل وجه سنحظى بتلك الدمية التي تملأ وجوه الأطفالِ بتجاعيد الفرح المؤقت خلفَ شاشات التلفاز. كَبُرنا ونحنُ نجترعُ فكرةَ أن الخيرَ الباطني سيشق لنا بالسعي طريقًا يصب في رحمِ السعادةِ لا محالة. كَبُرنا ونحنُ ندفعُ ثمن ايمانٍ ساذج لم نقترف ذنبًا في اعتناقه. ولم يعتذر لنا العالم بَعد، ولم يخبرنا بأن النهايات السعيدة لن نجدها إلا في الأدب المرئي والمقروء، وبأن نتائج ما زرعه في داخلنا وخيمة وسنحاول بشدّة التخلّص منها، لكن الايمان ذاك ملتصقٌ بخلايانا العقليّة كرقاقةٍ خبيثة تأبى الانسلاخ. الأملُ مرضٌ مُزمن يحلُّ بصاحبه لتُعييه تجربةً خلفَ أخرى، وقد نظُنُّ بكاملِ الإفراطِ فيه أن قُطّاعَ الطرق ومغتصبيها الذين تُرسلهم لنا الحياة لا يتعدون كونهم درجاتٍ إضافيّة ترفعُ بنا في سجّلِ نهايتنا - السعيدة- المُنتظرة، متناسيين بأن بعضَ الطُرق لم تُخلَق كاملة وتذللها هاويةٌ بقاعٍ لا نزولَ بعده. فيطوفُ الكون حول عقلنا راجياً سُبلًا بديلة لجعلِ مشاقِ الطريق أقل بؤسًا. والكتابة استجابة لمن لا حيلةَ له. الفِعلُ المُقدس، الذي إن شابَ طقوسه المفروضةَ شيء، أي شيء، قذَفنا في دائرة اللعنة. هنالك أحيانًا حاجة مُلحّة لمشاطرةِ نفسك مع الآخرين، نحتاجُ بشدّة أن ننفصل عن أجسادنا قليلًا ونندثر كفكرةٍ أثيريّة تستقرُ في آذانِ الروحِ دونَ أن تَراها... هنالك شيءٌ ما داخليّ يود أن يستصرخ، فكانَ القلمُ لنا البوابة. القلم - أو لوحة المفاتيح في الحقيقة لكنها لا تملك بعدًا كلاسيكياً مثله - لا يُحرّك أذرعنا فحسب، بل يُجنّد كل الجوارح والنوازع النفسيّة على طرفِ إبرةٍ من أجل ايصال فكرةٍ واحدة. النشوة التي تَسري في العروقِ كُلما خططنا كلمةً واحدة فوقَ الورق ووقعت على السطرِ تمامًا مِثلما ولدت في دهاليز العقل تمنحُ كاتبها قوّةً عظيمة وايهامًا أعظم بالقدرةِ على الكشفِ عن أُفقٍ مغاير. القَلمُ قادرٌ على إنعاشِ أمنياتٍ في زنزانة الحُلم، على إشعالِ فتيلة حُبٍ خامدة، على فكِّ شيفرةٍ سياسيّة، على إعمارِ سُمعةٍ أو تشويهها، على احياءِ فكرةٍ خنقتها حبالُ الصمت، وعلى تقصيرِ المسافاتِ الجغرافيّة ببضعِ ورقاتٍ من نور. وقد لا يتفق الجميعُ معك، لكن في اللحظةِ التي أرخيتَ الستار عن أوراقك فقدت صكّ المُلكية وأصبحت تتبعُ لناظريها، وبهذا الأمرِ من النرجسيةِ ما يكفيكَ عمرًا كاملًا. أو على الأقل، هكذا نظُنّ. فالكلمةُ الحرّة، التي لا تكترثُ بقواعد غيرِ اللغة، موءودة. وإن حدثَ واجتازت المقصلة الأوليّة ستُطارها أخريات كُثر... الكلمة التي لم تولَد بأغلال، ولم تثقب جدارِ الحرياتِ المهترئ، والتي لم تكن ذرةً في مسحوقٍ يُجمّلُ الحكومات بنثرها في عيونِ شعوبها، والتي لم تُستأصل منها ذاكرتها، ولم تمرّ بعمليةِ استنساخٍ فكريّ مُلصَقٌ على جبهتها حُكمٌ بالإعدام. مقبرةُ الآراءِ في بلادي تستقطبُ كل يومٍ آلافِ الكلماتِ التي سُحِقت في ثَغرِ كاتبها قبل أن تَحظى بنهايتها السعيدة وتلامس مخارِجَ النُطق، وتزيدُ العدّ واحدًا حين يتلعثمُ صاحبها بدمعِ حتفها، وحتفه، العصيّ. في بلادي، تتبدل مصائر الكتابة من جَرمٍ يُضيء الكون بحرفهِ لجُرمٍ يَحرِقُ صاحبه. لكن في بلادي ايضًا، أطفالٌ لا يَزالُ يُزرع في أفئدتهم رقاقات ايمانية خبيثة تَعدهم بنهايةٍ سعيدة.. لذا، برغمِ كُل الألم في بلادي الأطفالُ يكبرون وهم لا زالوا يكتبون.