أسئلة شتى يطرحها فيلم "ما بعد" للمخرجين جوزيف بيكر وتوم لارج (إنتاج 2014) وهو يغوص عميقا في إشكالية الوجود ذاته؛ فأحلام الشخصيات وأهوائها ونزاعاتها، كلها مجتمعة على صعيد إنساني واحد يمكن أن يواجهه أيّ إنسان حتى تغدو قصة التحدّي لزوال الكون قاسما مشتركا عنوانه القلق، الذي من الممكن أن يعتري أيّ إنسان يواجه قدره المتعلق بالزوال. في الفيلم تحدّي ضرب الأرض بمذنّب سيؤدي إلى الفناء، وها هو كول (الممثل ريتشارد دانوم) يعيش ذلك الهاجس والقلق، وحيث لم يبق على الحدث الجلل سوى عامين، وعليه خلالهما أن يحزم أمره ويستعدّ لوقوع الكارثة، يستمع إلى نشرات الأخبار ويقرأ الصحافة، وهي تتحدث عن اقتراب المذنب وأسئلة عن إمكانية ضربه وتفتيته، ليأتي الجواب أن النتيجة واحدة وخطيرة وتتعلق بفناء الأرض وتدمير الحياة فيها في كلتا الحالتين. كول شاب عاديّ، لكنه سيقف في مواجهة سارق مدجج بالسلاح يسطو على أحد المحلات وكأنت لديه قدرة استثنائية، تشل حركة ذلك السارق فلا يقوى على إطلاق النار ويلوذ بالفرار، ولكن بعد أن يصيب صاحب المحل برصاصة في البطن بعد اشتباك بينهما. ما بين المقدمتين، حالة الترقب من هول زوال الأرض والقدرة في السيطرة على السارق، سنستنتج أننا أمام إنسان استثنائي سيفعل فعلا استثنائيا في ما يتعلق بالهول المقبل، لكننا لن نجد الكثير من ذلك، إنه سرد فيلمي يتعلق بحياة عادية تماما ولا سيما بعد لقاء كول مع مايا (الممثلة جيليان مكروغر) والتي تتطور إلى حب، فزواج خلال مدة قصيرة. "ما بعد" يبدو من تلك الأفلام قليلة التكلفة، حيث التصوير غالبا في أماكن حقيقية، ولا متطلبات إنتاجية كبيرة، والأماكن لن تتعدّى مشاهد خارجية في المدينة ومناظر طبيعية على الساحل الأسكتلندي، وما بينهما بضعة مشاهد داخلية. وفي المقابل يغوص السرد الفيلمي عميقا في شخصية كول الذي تتناهبه ذكريات وماض عليه الخلاص منه استعدادا لفناء الأرض، بل إن هنالك إيحاءً ما ولكنه غير موفق، ذلك الذي يتعلق بهجرة كول ومايا من المدينة الصاخبة وإقامتهما على ساحل مقفر في أجواء شتائية. وخلال ذلك يشاهدان في لمح البصر تلك المركبة الفضائية العملاقة تمر خاطفة في السماء أو تتداخل مع الغيوم الثقيلة، ثم نما السرد الفيلمي إلى التقاط إشارات وذبذبات تأتي من مكان ما، وكلها جميعا تدفع مايا إلى إدانة كول بأنه يسعى إلى الهروب من واقعه بتشبثه بتلك الخرافة المتعلقة بالزوال الكوني. لن تتوقع تحولات درامية ولا نموا دراميا ملفتا للنظر، في فيلم مثقل بالحوارات وتتمّ فيه الانتقالات المونتاجية- المكانية بكثافة ملفتة للنظر، وربما هو حل اهتدى إليه المخرجان للخروج من رتابة الأحداث وعدم الاستغراق في حوار طويل ومتشعب بين الشخصيتين، وحتى إلى جهة التحدّي الماثل والمتعلق بالفناء والزوال ونزول أولئك الفضائيين، فإنها جميعا تزيد من إحباط كول الذي سيتساءل عن جدوى الحياة والإنجاب من خلال علاقته مع مايا. على الجانب الآخر هنالك أحداث تم زجّها وكأنها جاءت لزيادة التباس السرد الفيلمي، ومن ذلك لقاء كول بصاحب المحل ومن ثمة إجهاز هذا الأخير على كول برصاصة، ثم وفاته برصاصة من شخص آخر. لا يوجد جواب واضح على الأسئلة المتعلقة بهذا المقطع الفيلمي، ومن ثم موت، أو لا موت كول من جرّاء تلك الرصاصة التي تتيح له مزيدا من الذكريات والاستذكارات في أعماقه. هذا النوع من الدراما الفيلمية صار يتكرر، حيث يجري إدماج عناصر الجريمة بالتحرّي مع الخيال العلمي، شاهدنا من قبل أفلاما مثل فيلم “انفيني” للمخرج شين أبيس وفيلم “الإشارة” للمخرج وليم يوبانك وغيرهما من أفلام الخيال العلمي التي يجد صانعوها أن إدماج خطوط درامية متعددة في السرد الفيلمي، كفيل بالارتقاء بالأحداث ونموّها نحو مزيد من الانجذاب إليها مما يضفي وجود عوامل إضافية للجذب والتشويق، في مقابل سردية فيلمية قائمة على غرائبية الخيال العلمي فقط. كان هذا الفيلم قد أخذ طريقه إلى مهرجان لندن الدولي لأفلام الخيال العلمي العام الماضي، وسط نقاش مع طاقم الفيلم يتعلق بمساحة الخيال العلمي فيه، في مقابل الحوارات المطولة والمتشعبة والأحداث الجانبية التي لا تصب مباشرة في ثيمة الخيال العلمي في حدّ ذاتها.