إذا كنت من مسافري طريق القاهرة – الإسماعيلية الزراعي فلابد أنك قد رأيت آلاف الأطنان من أخشاب الأشجار المتراصة على جانبي الطريق بجوار ترعة الإسماعيلية فيما يعرف باسم "مكامير الفحم"، وهي منتشرة بكثرة على طول الطريق، وتعمل ليلًا ونهارًا، وتصدر عنها أدخنة كثيفة وسحابات سوداء تملأ سماء محافظة الشرقية دون ضوابط، مما يؤدي إلى تلوث شديد للبيئة، وانتشار الأمراض الخطيرة، وحجب الرؤية على الطريق أمام سيارات المسافرين، مما يتسبب في وقوع حوادث يوميًا وضحايا كثيرين، إلى درجة أن الأهالي في الشرقية صاروا يلقبون هذا الطريق بأنه "طريق الموت .. الداخل فيه مفقود والخارج منه مولود"، وذلك على حد تعبيرهم!!. في الوقت الذي تحظر فيه الحكومة حرق قش الأرز، وتقوم بعمل محاضر ضد من يخالف من الفلاحين البسطاء؛ وذلك تجنبًا لحدوث السحابة السوداء على سماء القاهرة. فإننا نجد الحكومة تترك أباطرة الفحم وأصحاب المكامير الذين يتربحون بالملايين من الجنيهات يمارسون عملهم في حرق الأشجار وصناعة الفحم بطريقة بدائية، وفي الهواء الطلق، مما يشكل خطورةً شديدة على الصحة العامة للمواطنين. ورغم قرارات الإزالة العديدة الصادرة ضدهم من جهاز شئون البيئة، فإن هذه القرارات ظلَّت حبيسة الأدراج كأنها حبر على ورق، وهي قرارات وهمية لا يتم تنفيذها على أرض الواقع. والسبب كما يقول المسئولون: "الدواعي الأمنية". ورغم استغاثات الأهالي ونداءاتهم المتكررة بضرورة أن تتم إزالة هذه المكامير، ويتم إبعادها عن المناطق السكنية حمايةً لصحة أبنائهم وبناتهم الذين يتعرضون يوميًا لأمراض الجهاز التنفسي، وخطر الموت على الطريق؛ بسبب الحوادث المتكررة فإن الحكومة والجهاز التنفيذي في الشرقية يتجاهلان مطالبهم، ويعطيانهم آذانًا من طين والأخرى من عجين. انعدام الرؤية داخل بعض القرى السكنية الواقعة على الطريق في نطاق محافظة الشرقية، وهي بالتحديد قرى مشتول السوق، وأنشاص، والمنير، والزوامل، ومدينة بلبيس، التقينا بعدد من الأهالي.. فيقول حمدي السيد عطية، سائق أتوبيس: لقد بح صوتنا ونفد صبرنا من كثرة شكوانا من وجود هذه المكامير على الطريق، وبالقرب من المناطق السكنية، والأدخنة السوداء التي تصدرها هذه المكامير؛ بسبب حرق كميات كبيرة من الأشجار تملأ سماء المنطقة وتصيب الأهالي بالأمراض الخطيرة، علاوةً على أنها تحجب الرؤية تمامًا على الطريق أمام سيارات المسافرين.. ويستطرد حمدي السيد: الحقيقة أن هذه المكامير حوَّلت حياتنا إلى ظلام دامس، فهي تعمل ليل نهار والدخان الأسود لا يتوقف أبدًا، وليس من المعقول أن تترك الحكومة هذه المكامير تعمل بهذا الشكل البشع والخطير الذي يقوم بتدمير البيئة من حولنا، ويدمر معها حياتنا وصحتنا، التي لا نملك غيرها وتترك أصحاب هذه المكامير يتربحون الملايين على حساب صحة أطفالنا وشبابنا، فلابد من وجود حلٍّ لإنقاذنا من هذا الظلام والدمار الذي يحيط بالبيئة من حولنا. حوادث متكررة ويتدخل محمود حسين، من أهالي مشتول السوق، قائلًا: أريد أن أسأل سؤالًا: ما فائدة مئات الملايين من الجنيهات التي تقوم هيئة الطرق والكباري الآن بإنفاقها على ازدواج هذا الطريق ليعمل بحارتين بدلًا من حارة واحدة، بهدف تيسير حركة المرور والتقليل من الحوادث التي تقع عليه، دون إزالة لهذه المكامير التي لا تزال موجودةً على الطريق رغم تطويره وازدواجه لأنها أساس المشكلة؟. فهذه المكامير هي التي تتسبب في وقوع الحوادث؛ نتيجة للأدخنة الكثيفة التي تتصاعد منها وتحجب الرؤية على الطريق. لذلك أطالب المسئولين بضرورة نقل هذه المكامير إلى جوف الصحراء بعيدًا عن الطرق السريعة والأماكن السكنية، حفاظًا على أرواح الأهالي وحماية للبيئة من خطر التلوث والنفايات الضارة التي تصدر عنها، والتي تقضي على الأخضر واليابس في المنطقة. سبوبة كبيرة ويقول محمد منير خليل، طالب جامعي: الحقيقة أن جهاز شئون البيئة هو المسئول عن وجود هذه المكامير؛ لأنه أغفل عينيه عن حقيقة وجودها وما تسببه من كوارث بيئية منذ سنوات طويلة مضت.. وعندما ذهبنا إلى المسئولين عن البيئة في الشرقية قدموا لنا محاضرهم ضد هذه المكامير، والتي تصل فيها الغرامات المالية إلى 30 ألف جنيه في العام الواحد وعلى المكمورة الواحدة، وكأن الجهاز يفضل تحصيل الغرامات عن تنفيذ قرارات الإزالة. وفي الواقع أن الغرامات المالية لا تحلُّ المشكلة؛ لأن أصحاب المكامير يتربحون الملايين من وراء هذه الصناعة البدائية، كما يقومون بتصدير إنتاجهم من الفحم إلى الخارج. فالأمر لا يقتصر فقط على السوق الداخلي، وبالتالي فهي مهنة مربحة جدًّا لأصحابها وللعاملين فيها، ودفع الغرامات بالنسبة لهم أمر هين، وأفضل بكثير من الإزالة، ولذلك نجدهم يدفعون الغرامات على الفور ودون تأخير، وفي المقابل يستمرون في عملهم ليل نهار في حرق الأشجار وتدمير البيئة، والمسئولون يغضون الطرف عن هذه الصناعة المربحة طالما أن هناك سبوبة كبيرة تأتي من ورائها، ولا عزاء لصحة المواطنين، ولا عزاء لبيئة جميلة ونظيفة في الشرقية. مهنة قديمة وعملة صعبة من داخل إحدى المكامير بالشرقية التقينا بأحد العاملين فيها ويُدعى رجب أبو حسين، وكان متخوفًا في بادئ الأمر، إلا أنه قال: "تكمير الفحم مهنة قديمة ومتوارثة أبًا عن جد، وهي صناعة مطلوبة جدًّا في مصر ويحتاجها السوق خاصةً القهاوي والكافيتريات بخلاف الاستعمال المنزلي..". كما أن هذا الفحم يتم تصديره للخارج ويدخل عملة صعبة للبلد، ووجود هذه المكامير على ضفاف الترع أمر ضروري؛ لأنها تحتاج دائمًا إلى المياه التي يتم استخدامها في إطفاء الحرائق التي نشعلها في الأخشاب، ثم يتم تكمير الأخشاب بالرماد والتراب، أي ندفنها لعدة أيام حتى تتحول الأخشاب إلى فحم أسود يتم تقطيعه وتعبئته في أجولة ثم نقله إلى الأسواق. والعمل في المكمورة يتم بنظام اليومية التي تصل إلى 70 جنيهًا في اليوم، وهي أجرة مرتفعة بالمقارنة بأجور المصانع من حولنا، لذلك تجد أغلب العاملين فيها من الشباب الأقوياء، إلا أنهم لا يستمرون طويلًا بسبب ما يتعرضون له من أمراض بسبب متاعب المهنة. وأغلب أوقات العمل في المكمورة تكون في فصل الشتاء، بينما في شهور الصيف يتم وقف العمل؛ بسبب السحابة السوداء وبناءً على قرار السيد المحافظ.. والمكامير التي تخالف قرارات التشغيل يتم توقيع الغرامات المالية عليها. مكامير صديقة للبيئة في طريقنا إلى مكتب محمود عبد الرازق البمبي، رئيس مركز ومدينة بلبيس، وجدنا عدة مكمورات تعمل وتشتعل فيها النيران رغم قرار حظر التشغيل، والذي يبدأ من الفترة من 15 أغسطس وحتى آخر نوفمبر 2012.. وبمواجهة رئيس المدينة قال: المكامير التي تتبعني إداريًا من مكامير الفحم على مستوى مركز بلبيس يبلغ عددها 116 مكمورة، منها 107 مكامير تابعة للوحدة المحلية بقرية الزوامل، و 6 مكامير تابعة للوحدة المحلية بغيتة، و3 مكامير في زمام الوحدة المحلية بكفر أيوب. ويكمل رئيس المدينة قائلًا: قد قمنا باستخراج قرارات لتقنين أوضاع هذه المكامير يحمل رقم 98 لسنة 2009، والذي تقدم لتقنين أوضاعه هما اثنان فقط، أما باقي المكامير فلم تقنن أوضاعها وفق النماذج المطورة والحديثة المعدة لها من وزارة البيئة كي تكون هذه المكامير صديقةً للبيئة، وذلك عن طريق عمل مكامير خرسانية أو حديدية تقلل من انبعاثاتها الضارة للبيئة، والمكمورة التي تخالف الاشتراطات البيئية تحرر ضدها مخالفات مالية جسيمة. وبالفعل قمنا بتحرير محاضر عديدة ضد أصحاب هذه المكامير وحصلنا منهم غرامات مالية كبيرة، كما نقوم بإزالة المكامير التي لا تلتزم بقرار حظر التشغيل في شهور الصيف. والحقيقة أن جهاز شئون البيئة قدم دراسات عديدة لتطوير عمل هذه المكامير إلا أن أصحابها يرفضون العمل بالنماذج المطورة ويفضلون الأسلوب البدائي.. وأتصور أن المسألة ستأخذ وقتًا طويلًا حتى يتم توفيق أوضاع هذه المكامير لتعمل وفق آليات حديثة تكون صديقةً للبيئة، وذلك لن يتم إلا من خلال التعاون من وزارة البيئة والتنسيق مع المحليات في حضور الأهالي وأصحاب هذه المكامير، خاصةً أنها المصدر الوحيد للرزق لديهم، وهي مهنة متوارثة أبًا عن جد ويحتاجها السوق الداخلي، وليس من الصالح العام أن نقضي على هذه الصناعة، وإنما يجب العمل على تطويرها وتحسينها بما يناسب الاشتراطات البيئية ويحمي الصحة العامة للمواطنين. من جانبه، أكد المهندس أمين محمود يوسف، مدير الإدارة العامة لشئون البيئة بالشرقية، أن: مكامير الفحم الموجودة بوضعها الحالي تعد مخالفة لقوانين حماية البيئة؛ لأنها تعمل في الخلاء ولا يمكن السيطرة على الغازات والأدخنة المنبعثة منها، كما أن تواجدها بالقرب من المناطق السكنية يشكل خطورةً شديدةً على صحة المواطنين. والحقيقة أن وزارة البيئة قدمت دراسات عديدة لتطوير عمل هذه المكامير، وقدمت لأصحابها نماذج حديثةً مدعمةً من الدولة، إلا أن أصحاب المكامير رفضوا استخدام النموذج الحديث وفضلوا استخدام أدواتهم البدائية والعمل في الخلاء حيث أن ذلك أوفر لهم بكثير.. وحتى الآن لم تستطع الحكومة والأجهزة التنفيذية إجبارهم على استخدام النموذج المطور، وكل ما تقوم بعمله هو توقيع الغرامات المالية ضدهم. ورغم قرارات الإزالة الصادرة فإنهم يرفضون، ويقابلون ذلك بالتجمهر والشغب والبلطجة. وقد أوصت وزارة البيئة بضرورة غلق العديد من المكامير، وأرسلت الإدارة محاضرها إلى الجهات الأمنية للقيام بعملية الإزالة، لكن الردود الأمنية دائمًا ما تأتينا بأن عملية الإزالة في غاية الصعوبة، وأن الأمر يحتاج عدة أشهر، رغم أن هذا الطريق حيوي ويربط بين أكثر من محافظة. علاوةً على أن كميات الأخشاب من الأشجار الموجودة على الطريق كميات مهولة، وتحتاج إلى أماكن تخزين وهي غير متوافرة مما يصعب من عملية الإزالة؛ نظرًا للبعد الاجتماعي لهذه المهنة باعتبارها مهنةً مطلوبةً في المجتمع، وصناعة تعيش عليها آلاف الأسر المصرية.. وعليه فإن الأجهزة التنفيذية في المحافظة تفضل تحصيل الغرامات عن وجوب الإزالة.. ولا عزاء للبيئة في الشرقية.