في ظل السباق المحموم والتنافس القوي بين الدراما السورية والدراما المصرية ظهرت في السنوات الأخيرة قوة ضاربة من نوع آخر، وهي الدراما التركية التي استطاعت جذب المشاهد المصري الذي بات يترقب كل ما هو عثماني الأصل حتى انفرد الأتراك بالشاشة الصغيرة.. وجاء فيلم " الفاتح " – الذي يعدُّ الفيلم التركي الأول من نوعه الذي تمت دبلجته – ليغزو شاشة السينما المصرية، والتي لم يُعرض من خلالها فيلم تاريخي مصري منذ أكثر من ثلاثين عامًا، لتصبح السينما التركية في مصاف السينمات العالمية، وتظلُّ سينما هوليود الشرق في موقف حرج، عن أزمة الفيلم التاريخي المصري دارت هذه السطور.. وتحدث الكاتب والسيناريست "محفوظ عبد الرحمن" قائلًا: "ظهور فيلم "الفاتح" أظهر المشكلة على السطح حين بدا جليًا أن هناك أزمة في الفيلم التاريخي المصري الذي توقف إنتاجه منذ فترة كبيرة، معتقداً أن آخر إنتاج كان فيلم "الناصر صلاح الدين" وقبله بعض الأفلام الدينية التاريخية التي أرَّخت للسيرة النبوية، مثل فيلمي "هجرة الرسول" و"فجر الإسلام"، وبخصوص فيلم "صلاح الدين" فالحقيقة أن خسائره الإنتاجية ما زالت أصداؤها تتردد حتى الآن، حتى قيل أن شركة آسيا التي أنتجت الفيلم أعلنت إفلاسها بسببه، وبعدما توقفت الأفلام التاريخية بسبب تلك الظروف الإنتاجية، خاصة أن القطاع العام ووزارة الثقافة لا يوافقان على تدعيم مثل هذه النوعية من الأعمال، رغم أن هناك ميزانية معروفة لوزارة الثقافة يمكن تخصيص جزء منها لإنتاج العمل التاريخي، وهو عمل تعليمي وتثقيفي بجوار كونه عملًا فنيًا به من المتعة والتسلية ما يمكن من خلاله جذب المشاهد". ويضيف عبد الرحمن: "الأزمة ليست إنتاجية فقط، لكن هناك أزمة أيضًا في دور العرض القليلة؛ لأنها غير موجودة سوى في القاهرة والإسكندرية، وشحيحة جدًا في باقي أنحاء الجمهورية، ولابد من نشر الثقافة السينمائية أولًا حتى نستطيع تسويق فيلم تاريخي مكلف يتخوف المنتج والمشاركون فيه من الفنانين الذين لن يرضوا بأن يضحوا بأسمائهم التي صنعوها من أجل فيلم من الوارد جدًا فشله؛ بسبب ثقافة الجمهور، وكما قلت ضعف الإنتاج، فالأزمة ليست في الكتابة لأننا ككُتّاب سيناريو دراما نستطيع كتابة السيناريو السينمائي، فالكتابة التاريخية وعلى الرغم من صعوبتها؛ نظرًا لأهمية تحرِّي دقة المعلومات وتوثيقها، فإن مصر بها متخصصون ومحترفون في ذلك". ويتفق معه في هذا الرأي الكاتب مصطفى محرم، ويضيف: "أزمتنا هنا تتمثل في الإنتاج المكلف جدًا، خاصةً أن تلك الأعمال لها طبيعة مميزة، وتحتاج لأماكن مفتوحة للتصوير، وهو ما يعني زيادة الفاتورة الإنتاجية، ومن الوارد ألا يستطيع شباك التذاكر جمع ما صرفه المنتج؛ لأنه محدود بدور عرض قليلة، وثقافة سينمائية ضعيفة، وفئة عمرية وشريحة مجتمعية لها مزاجها وطلباتها الخاصة، التي قد لا تتوافر في الفيلم التاريخي، ورغم أننا نمتلك تاريخًا مشرفًا فإن أعمالنا التاريخية في الوقت الحالي ستكون غير مشرفة نظرًا لحسابات السوق والمنطق الذي يتعامل به المنتج السينمائي، وهو الخسارة وليس حسابات الفن الهادف، وهذا حقه". أما المخرج "محمد خان" فيقول: "الأفلام التاريخية نادرة في السينما المصرية، خاصةً في أعقاب كارثة إنتاج شركة "آسيا" لفيلم صلاح الدين.. ورغم أن الفيلم حاز إعجاب الجماهير وكاد يصل للعالمية، ولو شاهده أيُّ شخص على قنوات التليفزيون فإنه سيتابعه، لكن جمهور السينما يختلف عن جمهور الدراما التي تدخل كل بيت، وذلك يخضع لحسابات السوق السينمائي المعروف بالمواسم والشرائح العمرية وظروف الجمهور، بمعنى أن هناك أسرة تريد الخروج للتنزه وتقرر الذهاب للسينما بغض النظر عن الفيلم الموجود، وهناك أسرة يهمها وجود بطل معين أو نوعية مرغوبة من الأعمال كالكوميديا أو الأكشن والاستعراض الذي لاقى ذيوعًا بعد الثورة، أما شريحة الشباب صغار السن والمراهقين فإنهم يميلون للأفلام الرومانسية والاستعراضية، وهناك من يقرر دخول السينما لمجرد الدخول، فظروف السينما يحكمها الجمهور والمنتج يعلم طبيعته، وبالتالي يقرر تقديم عمل مناسب لثقافة هذا، وهذا من الجمهور أو حتى يريح ضميره الفني ". ويضيف خان: "وكما أن هناك مخرجًا ومنتجًا يهمهما تقديم شيء مشرف لتاريخهما، فهناك أيضًا من يريد الربح المادي من خلال أفلام تحقق نجاحًا في شباك التذاكر لكنها لا تدوم، وتظهر تلك الأعمال مع كل فترة انحدار ثقافي واقتصادي كما حدث مع أفلام المقاولات في السبعينيات والثمانينيات، وكذلك عقب ثورة 25 يناير". أما المخرج "داود عبد السيد" فيرى، أن المشكلة ليست في عمل فيلم تاريخي محترم بل في عمل فيلم محترم بشكل عام يستطيع جذب المشاهد ليدفع ثمن تذكرة السينما. ويقول: "إنتاج فيلم محترم يخدم قضيةً أو يعالج مشكلةً ويطرحها شيء مكلف.. تلك هي طبيعة العمل المثمر، والمشكلة التي تقابل المنتج والمخرج في تلك الأعمال التاريخية هي أماكن التصوير والديكورات التي تتطلب مبالغ باهظةً، وأماكن مفتوحةً، وإمكانات إخراجية لا تتوافر لدى الجميع، وهناك أعمال سيرة ذاتية مثل "ناصر 56" و"أيام السادات" هي في الأساس أعمال تاريخية، وقد برع الراحل "أحمد زكي" في تقديمها، ولكن بمساهمة إنتاجية كبيرة، كما سهَّلت الوثائق التاريخية للزعيمين مهمة الكاتب، كذلك فإن تصاريح التصوير كانت متوافرةً؛ نظرًا لتعاون جهات عامة وخاصة لإنتاج العملين، وبذلك فإنه لابد من تعاون الدولة متمثلة في القطاع الاقتصادي باتحاد الإذاعة والتليفزيون، ووزارة الإعلام، ووزارة الثقافة في إخراج الأعمال التاريخية للنور دون انتظار مقابل مادي من ورائها، على اعتبار أنها أعمال تثقيفية رغم ثقتي في أنها لم يتم إنتاجها بشكل جيد فسوف تدر ربحًا على الدولة. الفنان "محمود قابيل" يرى، أن العقبة كثيرًا ما تكون في الدولة البيروقراطية الروتينية، فيقول: "الأعمال التاريخية تستلزم العديد من التصاريح، وكذلك الاطلاع على الوثائق والكتب، حتى يستطيع المؤلف استخراج المعلومات الصحيحة، خاصةً إذا كان الفيلم حول فترة تاريخية يثار حولها الشكُّ، ويجب أن يراعي المؤلف مسألة العبث التاريخي والتزوير". فمثلًا أعتقد أن مؤرخي العصر العباسي حاولوا محو كل إيجابيات الأُمويين، كذلك ثورة الضباط الأحرار ستمحو ولو حسنة صغيرة لأسرة محمد علي العلوية، وهكذا.. لذا فإن المؤلف لابد أن يكون حذرًا، والمنتج لابد أن يكون مغامرًا؛ لأن الجمهور لم يعتد أن يشاهد الفيلم التاريخي في السينما خاصةً في الأعوام الثلاثين الأخيرة، وأصبحت الحسابات مختلفةً على جميع المستويات الفنية وليس على المستوى السينمائي فقط، فاختلفت حسابات الدراما أيضًا، وأصبح الاعتماد على "تيمات" معروفة وأسماء نجوم بعينهم لجذب الإعلانات للفضائيات. ويضيف قابيل: "العمل التاريخي يحتاج لمخرج واعٍ أيضًا وعلى قدر من المسئولية، بحيث يستطيع تحريك الأحداث والإمساك بكل التفاصيل، بالإضافة إلى أهمية دور الدولة في الوقوف بجوار صناع الأعمال التاريخية، وتذليل العقبات أمامهم، ومساعدتهم بالتصوير في الأماكن المكلفة والعدات والأجهزة التي قد لا تتوافر مع إمكانات المنتج". ويستطرد قابيل: "ما حدث معي ومع الدكتور عصام الشماع هو عدم تذليل للعقبات، حيث كنا ننوي عمل فيلم تاريخي عن بطولات الجيش المصري، وشهيد فرقة الصاعقة البطل إبراهيم الرفاعي، وقدمنا الأوراق المطلوبة لوزارة الدفاع كي يساعدونا بالمعدات والأجهزة، ولم تأتِ الموافقات حتى الآن رغم أن هذا العمل سيكون ضخمًا ومهمًا لتعريف الأجيال القادمة ببطولات المؤسسة العسكرية، وأتمنى التعاون لتقديم رسالة فنية هادفة تخدم المعرفة والقومية العربية". أما الفنان "محمد رياض" فيؤكد، أن العمل التاريخي ليس مشكلةً سينمائية فقط بل ودرامية أيضًا، رغم أننا نمتلك تاريخًا مشرفًا وكفاءات فنية كبيرة.. ويقول: "دائمًا ما تكون مشكلتنا في المادة، وأتمنى أن تكون مشكلةً محلولةً إذا ما تكاتفت أكثر من شركة لإنتاج عمل مهم، وليس غريبًا أن المنتجين لا يعنيهم ذلك، وقد قدمت العديد من الأعمال التاريخية والتي لاقت نجاحًا أسعدني، لكن معايير الجمهور تختلف عن معايير صناع الدراما، ولابد من أن يهتم الصانع بصنعته، وأن يقنع الجمهور بالديكورات، والملابس والمكياج، وأماكن التصوير، واللهجة، وطريقة أداء الممثلين، وأن يكون كل ذلك مناسبًا للفترة التاريخية التي يجسدونها، ولابد أن يكون هناك صدق في كل تلك المضامين، فالعمل التاريخي حساس لدرجة كبيرة، ويحتاج لمهارة من الممثلين، وعبقرية من المخرج ومصداقية من المؤلف، والأهم هو الإنتاج". ويضيف رياض: " ما يُثار حاليًا حول أهمية تقديم تلك الأعمال لضبط الإيقاع الثقافي وأحيانًا العقائدي فهذا أمر مختلف، وأقصد أنه لابد أن يتحد المصريون لإخراج هذه الأعمال، فالأمر ليس مسئولية المنتجين فقط؛ لأن هذا التاريخ ملك لمصر". وبخصوص الأعمال الدينية التاريخية فأعتقد، أن هذا أمر يخصُّ المسلمين الذين لا بد أيضًا أن يهتموا بالقيام بنشر دينهم من خلال أعمال لتعريف الناس بتاريخ الصحابة أو حتى الأنبياء، وربما كان رفض مؤسسة الأزهر لتجديد الأشياء عائقًا حول تطوُّر العمل التاريخي، لأنني على ثقة بأنه إذا أعلن الأزهر موافقته على تجسيد الرسل والأنبياء فإن الكثير من المنتجين سوف يدلون بدلوهم، وذلك رغم تحفُّظي الشخصي على مسألة تجسيد الرسل والأنبياء". على الجانب الآخر يرى المنتجون، أن المشكلة ليست فيهم بقدر ما هي في الدولة بشكل عام. ويقول المنتج محمد حفظي: "لا مانع لديّ من إنتاج فيلم تاريخي مكتوب بشكل جيد وموثق، ولكن على حسب إمكاناتي، وبصراحة فإن الأعمال التاريخية مكلفة، والخسارة لن يتحملها غيري، والمشاكل الاقتصادية التي أصابت البلد كلها بالشلل جعلت أصحاب المشاريع الصغيرة يخافون على أنفسهم من الإفلاس، فالعجلة متوقفة، وانسحب الكثيرون من سوق العمل، وهناك من قرر تقليل أجور الفنانين، وهذا بالنسبة للدراما. أما السينما فقد أثبتت أنها لا تسير على وتيرة واحدة وكأن مزاج الجمهور المصري في تقلب دائم؛ نظرًا لنجاح أعمال هادفة أيضًا، ولا أعرف لماذا لا تقف الدولة بجوار المنتج حتى يتم تشجيع هذه الصيانة التي أدرت دخلًا كبيرًا للدولة في بدايات الحكم الناصري، وأسهم صناعها في جعل مصر هوليود الشرق وقبلة الفن!". ويتفق مع هذا الرأي المنتج "أمير شوقي"، ويضيف أن الفيلم التركيّ وكذلك كل الأعمال التاريخية التي تخرج من السينما الأمريكية والأوروبية تشارك فيها الدولة، حتى وإن كان الإنتاج خاصًا، فإن ثقافة تلك المجتمعات وسوقها السينيمائي يستطيع استيعابها، فهذه المجتمعات لديها وعيٌّ سينيمائي، ودور عرض تستطيع ابتلاع كل تلك الأعمال، وكذلك جمهور مختلف الطبائع والأذواق، أما هنا فالجميع لا يعرف سوى الأكشن والكوميدي والرومانسي، ولا وجود للفيلم الاجتماعي أو الإنساني أو التاريخي، ولا يوجد منتج سيغامر بأمواله فيها؛ لأنها لن تُجني ثمارًا، ولن تلقى القبول الكافي، ولا بد أن تكون المغامرة من الدولة أو لا".