محافظ قنا يناقش فرص إنشاء مصنع سمادي كيمياوي على مساحة 30 الف متر مربع بقنا    نهائي دوري أبطال أفريقيا.. كولر يحدد برنامج الأهلي التدريبي قبل مواجهة الترجي    الحبس سنة مع الشغل للمتهم بالاتجار في المواد المخدرة بالعجوزة    محافظ قنا يناقش فرص إنشاء مصنع سماد كيمياوي على مساحة 30 ألف متر مربع    البحوث الإسلامية يصدر عدد (ذي القعدة) من مجلة الأزهر مع ملف خاص عن الأشهر الحرم والحج    بدء فعاليات افتتاح موسم حصاد القمح بمشروع مستقبل مصر بتلاوة القرآن الكريم    وزير الصناعة: وفرنا 6 ملايين متر أراضي صناعية لإقامة 400 مشروع    موقف السولية وعبد القادر من المشاركة في نهائي إفريقيا    دعبس: لا خلاف بين فيوتشر وتامر مصطفى.. وجنش من ركائز الفريق الرئيسية    وفد الصليب الأحمر يزور طاقم جلاكسي ليدر الإسرائيلية المحتجزة لدى الحوثيين    المديريات تبدأ في قبول اعتذارات المشاركة في امتحانات الشهادة الإعدادية 2024    توقعات الأبراج، حظك الثلاثاء 14-5-2024، الميزان والعقرب والقوس    الأوبرا تحتفى ب«عمار الشريعي» على المسرح الكبير    شعبة الأدوية: السوق يواجه نقصا غير مسبوق في الدواء ونطالب مجلس الوزراء بحل الأزمة    السفير الأمريكي لدى إسرائيل ينفي حدوث تغير في العلاقات الثنائية    الدفاعات الجوية الروسية تدمر 16 صاروخا و35 طائرة مسيرة من أوكرانيا خلال الليل    العمل تشارك فى احتفالية الاتحاد المحلي لعمال أسيوط    ارتفاع توريد محصول القمح لصوامع وشون كفر الشيخ إلى 174 ألف طن    4 إجراءات لتعزيز المنظومة البيئية للسياحة العلاجية والاستشفائية في مصر    ثلاثة لاعبين مصريين في الجولة الثالثة من بطولة العالم للإسكواش    نيمار يقلد رونالدو بعد تتويج الهلال    تراجع مؤشرات البورصة المصرية في بداية تعاملات اليوم الاثنين 13 مايو 2024    توريد 168 ألف طن قمح لشون وصوامع البحيرة حتى الآن    خلال 24 ساعة.. رفع 46 سيارة ودراجة نارية متهالكة من الميادين    خلال 24 ساعة.. تحرير 544 مخالفة لقائدي الدراجات النارية لعدم ارتداء «الخوذة»    الآن.. جداول تشغيل القطارات الجديدة «نوم ومكيفة» ل الإسكندرية ومطروح (المواعيد والتفاصيل)    تداول امتحانات الترم الثاني 2024 لصفوف النقل عبر تليجرام    وزير الإسكان يتفقد سير العمل بمشروع سد «جوليوس نيريري» الكهرومائية بتنزانيا    جامعة الإسكندرية توقع بروتوكول تعاون مع مقاطعة صينية لإقامة مشاريع زراعية    شيخ الأزهر يزور مسجد السيدة زينب بعد الانتهاء من عمليات التجديد    فيلم «السرب» يحتفظ بصدارة قائمة إيرادات السينما    تغييرات في الحكومة الروسية وإقالة وزير الدفاع.. كيف يستعد بوتين لحرب طويلة الأمد؟    للسيدات.. تعرفي على أعراض سرطان المبيض    اليوم.. «صحة المنيا» تنظم قافلة طبية بقرية في ديرمواس ضمن «حياة كريمة»    اليوم.. «محلية النواب» تناقش موازنة محافظتي القاهرة والإسكندرية للعام المالي 2024/ 2025    حظك اليوم الإثنين، رسائل لبرجي الأسد والميزان (فيديو)    الدفاع المدنى فى غزة: انتشلنا جثامين 10 شهداء من حى السلام شرق مدينة رفح    أول تعليق من الأزهر على إعلان انضمام مصر لدعوى جنوب أفريقيا ضد إسرائيل أمام «العدل الدولية»    الأرصاد الجوية : طقس حار على أغلب الأنحاء معتدل على السواحل الشمالية    شقيقان يقتلان شابا فى مشاجرة بالسلام    مع توالي العدوان الإسرائيلي علي غزة .. ما المنتظر من القمة العربية القادمة في البحرين 2024 ؟    أرتيتا يثني على لاعبي أرسنال    الافتاء توضح حكم ارتداء المرأة الحجاب عند قراءة القرآن    عقد مناظرة بين إسلام بحيري وعبدالله رشدي حول مركز "تكوين الفكر العربي"    سيناتور أمريكي مقرب من ترامب يطالب بضرب غزة وإيران بسلاح نووي    مؤلفة مسلسل «مليحة»: استخدمنا قوة مصر الناعمة لدعم أشقائنا الفلسطينيين    هل يجوز التوسل بالرسول عند الدعاء.. الإفتاء تجيب    وزير التعليم: طلاب المدارس الفنية محجوزين للعمل قبل التخرج    بعد تعيينها بقرار جمهوري.. تفاصيل توجيهات رئيس جامعة القاهرة لعميدة التمريض    لا أستطيع الوفاء بالنذر.. ماذا أفعل؟.. الإفتاء توضح الكفارة    دعاء في جوف الليل: اللهم إنا نسألك أن تستجيب دعواتنا وتحقق رغباتنا وتقضي حوائجنا    مفاجأة.. نجم الزمالك يكشف مكسب الفريق في مباراة نهضة بركان    أزهري يرد على تصريحات إسلام بحيري: أي دين يتحدثون عنه؟    وزير التعليم: هناك آلية لدى الوزارة لتعيين المعلمين الجدد    منها تخفيف الغازات والانتفاخ.. فوائد مذهلة لمضغ القرنفل (تعرف عليها)    مستقبل وطن بأشمون يكرم العمال في عيدهم | صور    نهائي الكونفدرالية – موعد مباراة العودة بين الزمالك ضد نهضة بركان والقناة الناقلة    وفاة أول رجل خضع لعملية زراعة كلية من خنزير    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"مستعمرة الجذام".. محاكاة الوباء سرديًّا
نشر في صوت البلد يوم 17 - 03 - 2020

تهيمن سردية الوباء وتحلل الأفكار والقيمة والمعنى على أجواء المجموعة القصصية "مستعمرة الجذام" للروائي فتحي إمبابي، الصادرة حديثًا عن دار "ابن رشد" بالقاهرة، وتبدو وكأنها محاكاة تهكمية لتداعيات الوباء، مختزلة عبر قصصها الخمس تحولات واقع أصبح مشوهًا ومضطربًا ومخيفًا، لا جدوى فيه للصعود والهبوط بكل دلالتهما الطبقية والنفسية، سوى إحساس ممض بانعدام الأمل والطمأنينة... وقائع وأحداث بعضها واقعي حتى النخاع، يكاد يكون توثيقًا لتجارب خاضها البطل السارد الرئيسي، وأخرى تشارف تخوم الفانتازيا والأسطورة والواقع الافتراضي، مسكونة بروح من العبث والتهكم والسخرية، إنه زمن المسخ، مسخ كل شيء، الكائنات والأحلام والشعارات والنضال والثورات، بينما ينحصر صراع الإنسان وسط كل هذا في مجرد الحافظ على كينونته، وإحساسه بأنه ينتمي لجنس البشر. ومن ثم لا تقتصر رمزية الجذام، هذا الوباء الفتاك، على سكان البرك والمستنقعات الذين تحولوا تحت وطأة المرض إلى زواحف وقوارض، بل تمتد هذه الرمزية إلى سكان الأطراف من الطبقة العليا، المحيطين بحواشي الحكم والسلطة، وسط إحساس بالخوف والهلع يطارد الجميع، بينما تبرز الغرابة المقلقة، وكأنها قانون اللعبة، حيث يتسابق أبطالها في صناعتها وتدويرها لتصبح على مقاسه فقط، وطوع مصالحه ونزواته.
في القصة الأولى "الرجال الطبيعيون" يحدد صراع السطح والأعماق طبيعة الشخوص ونظرتهم للمستقبل وواقع الحياة من حولهم، وسط أجواء تتحول إلى كابوس بين أشخاص طبيعيين ممتلئين بذواتهم وأدوارهم، وآخرين متسلقين يبحثون عن دور، وعبثًا تحاول الذات الساردة فيما يشبه النجوى الداخلية الشجية أن تزيح عن كاهلها ظلال هذا الكابوس، فلا يبقى أمامها سوى السخرية منه، كقناع للتكيف والإذعان، يقول السارد الكاتب بعين الراوي العليم (ص 6): "لعنه الله على الذين ملأوا عقولنا بالآلهة الأبطال. وصراع الطبقات والأخلاق المستقيمة، وتلك الأساطير المسماة بالوطن والشعب، والطبقات الكادحة... الآن يتخبط الجميع هربًا من ذلك الانحدار الدامي وطلبًا للصعود. الآن لا ألتقي سوى بالنوع الجديد من الرجال الصاعدين، ونحن لا نزال نتمسك بما يثقلنا عن الصعود لضوء شمس جديدة... إذ قيل لنا إن الشمس التي أمدتنا بالضوء لم تكن سوى شمس كاذبة".
ويستطرد الراوي، متسائلاً:
"كيف يمكن؟
منذ أن بدأ هذا السؤال يطرق عقلي، وأنا أحث الجميع على التكيف مع الشمس الجديدة. الوحيد الذي كان متمسكًا بشمس الزيف هو أنا، ربما عن عجز، ربما أن هناك مثلي آخرين لا أعرفهم، وإذا ما التقيت بأحدهم، فسرعان ما تدفعه بعيدًا قوة جذب قاهرة... لكن، من يملك الحقيقة بالضبط، ومن يصنع الوهم بها أو يتاجر بالاثنين معًا، ثم من يملك الإزاحة عما كان إلى ما سيكون، من يملك صناعة المستقبل، إنهم "الرجال الطبيعيون هم القادرون على أن ينشدوا الحياة من المستنقعات على جثث الضعفاء حين تغرق السفن" وهم أيضًا "الذين يستطيعون أن ينشدوا الحياة حتى لو كان الفساد طريقهم... أما أولئك الذين يقضون حياتهم في سبيل الغير فهم المنكوبون بالبلاد، المباعون في أسواق الوهم والنخاسة، المنسحبون من حلبات الصراع، كي يقل أعداد الناجين في حلبة الحياة، لتعظيم الفائدة... فماذا أبقي عليَّ... في دار الموت هذه... لست أعرف بالضبط".
هذا الشكل المدمر لقدرة الذات، لا يتمثل فقط في عجزها عن الانسحاب من الحياة، التي تحولت في زمن المسخ إلى دار للموت، وإنما يمتد إلى عجزها عن التساؤل والمراجعة. وكمحاولة للفكاك من هذا الكابوس، تطل فكرة القفز خارج المكان، لاستحضار الشبيه أو القرين أو الضد للمكان نفسه، وإضفاء مسحة من المصداقية على أجوائه الواقعية والمتخيلة، كما توسع من رقعة المشهد وسياقه المؤطر في نسيج السرد، ليشتبك مع حالات إنسانية أكثر اتساعًا وتعقيدًا، تمنحه صفة الدوام والتناسل في دائرة من المقارنة الضمنية الشفيفة.
هكذا يبدو الحال في قصة "عزيزي تيمور... أيها المنتشر العظيم"، فالأحداث تقفز من المعتقل بحيزه الضيق كمعطى مكاني واقعي، لتشتبك مع حيوات أخرى أكثر رحابة واتساعًا في الخارج وفي الماضي، حيث تبرز القصة مشاهد من نضال الحركة الطلابية، عبر نخبة من رموزها من الطلاب والطالبات على رأسهم "تيمور الملواني"، وكيف يعيشون حياتهم داخل السجن، بما تنطوي عليها من مفارقات إنسانية، تعكس وجهًا آخر للنضال في مواجهة تعسف السلطة وقمعها... قصة عادية، بها نزوع توثيقي، يشبه المرثية للثورة، أو الثورات (ثورة الجوع وثورة الحرية وثورة الهوية) كما يرد في سياق النص. لكن الكاتب يدفع هذه المرثية إلى ما هو أبعد، ليشتبك السرد مع أسئلة الوجود والمصير، وكأنها صدى لجدلية الصعود والهبوط... "تتسع عيوننا بالاستغراب والغربة... يحدونا أمل بأن ثمة قاعًا للهاوية... ثمة لحظة للارتطام بالقاع... للتهشيم... فلا نجد سوى سقوط بلا قرار، سقوط بلا هاوية.."، في آخر النص يوسع القفز خارج المكان من فضاء هذه المرثية المكان، فيعلق في غبارها صور من رموز النضال في الماضي، "الحسين، وأخته السيدة زينب... وجيفارا"، تعضد هذه الرموز زمن القص الراهن، وتمنحه سمة الصيرورة الممتدة في التاريخ، يقول الكاتب مخاطبًا رفيقه الملواني (ص28) "هل مت بهدوء، أم أن جثتك مُثل بها، بعد أن سلخت في دروب مكة؟ هل مت معافى، أم أن إبهامك قُطع، قبل أن ينقل من أحراش بوليفيا إلى دهاليز المخابرات المركزية".
هذا الجو الذي يختلط فيه الوهم بالحقيقة، وتعلو الأسطورة كملاذ للخلاص، لا تسلم منه صبوات الجسد وغرائزه الطبيعية، فيتحول لقاء البطل بالمرأة ذات القوام والجمال الشهي الساحر إلى كابوس من الرعب، يتجرّعه على أنغام الموسيقي والشعر في القصة الثالثة "امرأة من مخمل"، حيث يبرز المشهد مرعباً، ويتناثر في ثنايا السرد، عابراً ضمير المتكلم الحاضر إلى ضمير الغائب المروي عنه كأنه كابوس يتنقل بعفوية وعادية من الداخل للخارج... "من كوة حائط جانبي أطلت رؤوس أطفال تربط بهم صلة دم، وقد بترت أعناقها، يمتصون من إبهامهم لبنًا ورديًّا، خيط أحمر رفيع ينسكب من أفواههم اللينة الصغيرة على الأرض، مشكلاً كتلاً مخروطية لزجة من الدم المخثر... وللعجب كان دم".
إن الأمر لا يتعلق هنا بالمتخيل وطبيعته المرعبة اللامترامية، كما تجسده المجموعة، إنما يتعلق بواقع المتخيل نفسه، فكلاهما يفيض عن الآخر، ويلتصق به، ولا يقل رعبًا عنه، كأنهما ابنا علاقة تنهض على التواطؤ، ما بين الماضي والحاضر، ما بين الذات والوجود، ليتسع أفق الغرابة المقلقة، ويصبح سمة طبيعة للكائن البشري.
يبرز هذا المنحى في قصة "المرأة الدينارية"، فالطبيبة الشابة بإحدى شركات الأدوية بجنوب البلاد تتوق للحظة من الحرية، ترفع عنها ربكة الأعراف والتقاليد المتزمتة، بينما يجسد ولع البطل المسؤول المتنفذ بقوامها الباذخ تحت نقابها الأسود الحريري الفضفاض تجسيدًا لهذه اللحظ، فيسرب لها ورقة تنقذها هي وشركتها من تهم بالفساد والغش. وبعد أن تأنس له، وتجذبها شخصيته تسدد له ديونه التي طلبها في مقابل ذلك.
من العلامات الفنية اللافتة في هذه المجموعة الشيقة، الاحتفاء بالحضور الإنساني، حتى في أقصى لحظاته تناقضًا وتشوهًا، بخاصة في علاقته بالسلطة. وهو ما يطالعنا في قصة "مستعمرة الجذام" أطول القصص الخمس، حيث يبلغ التهكم والسخرية ذروتهما دراميًّا، من سلطة شائخة فاسدة تحولت إلى مستعمرة مليئة بالأوبئة والأمراض، لكن دائمًا هناك جوقة تتمسح بها، لتنعم برضاها ومنافعها... يفضح التهكم كل هذا ويحوله إلى كرنفال من العبث، ويسرّب الكاتب السارد في طوايا السرد إشارات ورسائل ضمنية شديدة السخرية، عن معنى المثقف الحقيقي، وكيف تتحلل القيم والأفكار، وتصبح مرادفًا للفساد والتشيؤ، في مقابل رسالة أكثر عمقًا ونبلاً حرصت المجموعة على إبرازها، وهي أن سلطة المعرفة لا تنفصل عن سلطة الضمير.
تهيمن سردية الوباء وتحلل الأفكار والقيمة والمعنى على أجواء المجموعة القصصية "مستعمرة الجذام" للروائي فتحي إمبابي، الصادرة حديثًا عن دار "ابن رشد" بالقاهرة، وتبدو وكأنها محاكاة تهكمية لتداعيات الوباء، مختزلة عبر قصصها الخمس تحولات واقع أصبح مشوهًا ومضطربًا ومخيفًا، لا جدوى فيه للصعود والهبوط بكل دلالتهما الطبقية والنفسية، سوى إحساس ممض بانعدام الأمل والطمأنينة... وقائع وأحداث بعضها واقعي حتى النخاع، يكاد يكون توثيقًا لتجارب خاضها البطل السارد الرئيسي، وأخرى تشارف تخوم الفانتازيا والأسطورة والواقع الافتراضي، مسكونة بروح من العبث والتهكم والسخرية، إنه زمن المسخ، مسخ كل شيء، الكائنات والأحلام والشعارات والنضال والثورات، بينما ينحصر صراع الإنسان وسط كل هذا في مجرد الحافظ على كينونته، وإحساسه بأنه ينتمي لجنس البشر. ومن ثم لا تقتصر رمزية الجذام، هذا الوباء الفتاك، على سكان البرك والمستنقعات الذين تحولوا تحت وطأة المرض إلى زواحف وقوارض، بل تمتد هذه الرمزية إلى سكان الأطراف من الطبقة العليا، المحيطين بحواشي الحكم والسلطة، وسط إحساس بالخوف والهلع يطارد الجميع، بينما تبرز الغرابة المقلقة، وكأنها قانون اللعبة، حيث يتسابق أبطالها في صناعتها وتدويرها لتصبح على مقاسه فقط، وطوع مصالحه ونزواته.
في القصة الأولى "الرجال الطبيعيون" يحدد صراع السطح والأعماق طبيعة الشخوص ونظرتهم للمستقبل وواقع الحياة من حولهم، وسط أجواء تتحول إلى كابوس بين أشخاص طبيعيين ممتلئين بذواتهم وأدوارهم، وآخرين متسلقين يبحثون عن دور، وعبثًا تحاول الذات الساردة فيما يشبه النجوى الداخلية الشجية أن تزيح عن كاهلها ظلال هذا الكابوس، فلا يبقى أمامها سوى السخرية منه، كقناع للتكيف والإذعان، يقول السارد الكاتب بعين الراوي العليم (ص 6): "لعنه الله على الذين ملأوا عقولنا بالآلهة الأبطال. وصراع الطبقات والأخلاق المستقيمة، وتلك الأساطير المسماة بالوطن والشعب، والطبقات الكادحة... الآن يتخبط الجميع هربًا من ذلك الانحدار الدامي وطلبًا للصعود. الآن لا ألتقي سوى بالنوع الجديد من الرجال الصاعدين، ونحن لا نزال نتمسك بما يثقلنا عن الصعود لضوء شمس جديدة... إذ قيل لنا إن الشمس التي أمدتنا بالضوء لم تكن سوى شمس كاذبة".
ويستطرد الراوي، متسائلاً:
"كيف يمكن؟
منذ أن بدأ هذا السؤال يطرق عقلي، وأنا أحث الجميع على التكيف مع الشمس الجديدة. الوحيد الذي كان متمسكًا بشمس الزيف هو أنا، ربما عن عجز، ربما أن هناك مثلي آخرين لا أعرفهم، وإذا ما التقيت بأحدهم، فسرعان ما تدفعه بعيدًا قوة جذب قاهرة... لكن، من يملك الحقيقة بالضبط، ومن يصنع الوهم بها أو يتاجر بالاثنين معًا، ثم من يملك الإزاحة عما كان إلى ما سيكون، من يملك صناعة المستقبل، إنهم "الرجال الطبيعيون هم القادرون على أن ينشدوا الحياة من المستنقعات على جثث الضعفاء حين تغرق السفن" وهم أيضًا "الذين يستطيعون أن ينشدوا الحياة حتى لو كان الفساد طريقهم... أما أولئك الذين يقضون حياتهم في سبيل الغير فهم المنكوبون بالبلاد، المباعون في أسواق الوهم والنخاسة، المنسحبون من حلبات الصراع، كي يقل أعداد الناجين في حلبة الحياة، لتعظيم الفائدة... فماذا أبقي عليَّ... في دار الموت هذه... لست أعرف بالضبط".
هذا الشكل المدمر لقدرة الذات، لا يتمثل فقط في عجزها عن الانسحاب من الحياة، التي تحولت في زمن المسخ إلى دار للموت، وإنما يمتد إلى عجزها عن التساؤل والمراجعة. وكمحاولة للفكاك من هذا الكابوس، تطل فكرة القفز خارج المكان، لاستحضار الشبيه أو القرين أو الضد للمكان نفسه، وإضفاء مسحة من المصداقية على أجوائه الواقعية والمتخيلة، كما توسع من رقعة المشهد وسياقه المؤطر في نسيج السرد، ليشتبك مع حالات إنسانية أكثر اتساعًا وتعقيدًا، تمنحه صفة الدوام والتناسل في دائرة من المقارنة الضمنية الشفيفة.
هكذا يبدو الحال في قصة "عزيزي تيمور... أيها المنتشر العظيم"، فالأحداث تقفز من المعتقل بحيزه الضيق كمعطى مكاني واقعي، لتشتبك مع حيوات أخرى أكثر رحابة واتساعًا في الخارج وفي الماضي، حيث تبرز القصة مشاهد من نضال الحركة الطلابية، عبر نخبة من رموزها من الطلاب والطالبات على رأسهم "تيمور الملواني"، وكيف يعيشون حياتهم داخل السجن، بما تنطوي عليها من مفارقات إنسانية، تعكس وجهًا آخر للنضال في مواجهة تعسف السلطة وقمعها... قصة عادية، بها نزوع توثيقي، يشبه المرثية للثورة، أو الثورات (ثورة الجوع وثورة الحرية وثورة الهوية) كما يرد في سياق النص. لكن الكاتب يدفع هذه المرثية إلى ما هو أبعد، ليشتبك السرد مع أسئلة الوجود والمصير، وكأنها صدى لجدلية الصعود والهبوط... "تتسع عيوننا بالاستغراب والغربة... يحدونا أمل بأن ثمة قاعًا للهاوية... ثمة لحظة للارتطام بالقاع... للتهشيم... فلا نجد سوى سقوط بلا قرار، سقوط بلا هاوية.."، في آخر النص يوسع القفز خارج المكان من فضاء هذه المرثية المكان، فيعلق في غبارها صور من رموز النضال في الماضي، "الحسين، وأخته السيدة زينب... وجيفارا"، تعضد هذه الرموز زمن القص الراهن، وتمنحه سمة الصيرورة الممتدة في التاريخ، يقول الكاتب مخاطبًا رفيقه الملواني (ص28) "هل مت بهدوء، أم أن جثتك مُثل بها، بعد أن سلخت في دروب مكة؟ هل مت معافى، أم أن إبهامك قُطع، قبل أن ينقل من أحراش بوليفيا إلى دهاليز المخابرات المركزية".
هذا الجو الذي يختلط فيه الوهم بالحقيقة، وتعلو الأسطورة كملاذ للخلاص، لا تسلم منه صبوات الجسد وغرائزه الطبيعية، فيتحول لقاء البطل بالمرأة ذات القوام والجمال الشهي الساحر إلى كابوس من الرعب، يتجرّعه على أنغام الموسيقي والشعر في القصة الثالثة "امرأة من مخمل"، حيث يبرز المشهد مرعباً، ويتناثر في ثنايا السرد، عابراً ضمير المتكلم الحاضر إلى ضمير الغائب المروي عنه كأنه كابوس يتنقل بعفوية وعادية من الداخل للخارج... "من كوة حائط جانبي أطلت رؤوس أطفال تربط بهم صلة دم، وقد بترت أعناقها، يمتصون من إبهامهم لبنًا ورديًّا، خيط أحمر رفيع ينسكب من أفواههم اللينة الصغيرة على الأرض، مشكلاً كتلاً مخروطية لزجة من الدم المخثر... وللعجب كان دم".
إن الأمر لا يتعلق هنا بالمتخيل وطبيعته المرعبة اللامترامية، كما تجسده المجموعة، إنما يتعلق بواقع المتخيل نفسه، فكلاهما يفيض عن الآخر، ويلتصق به، ولا يقل رعبًا عنه، كأنهما ابنا علاقة تنهض على التواطؤ، ما بين الماضي والحاضر، ما بين الذات والوجود، ليتسع أفق الغرابة المقلقة، ويصبح سمة طبيعة للكائن البشري.
يبرز هذا المنحى في قصة "المرأة الدينارية"، فالطبيبة الشابة بإحدى شركات الأدوية بجنوب البلاد تتوق للحظة من الحرية، ترفع عنها ربكة الأعراف والتقاليد المتزمتة، بينما يجسد ولع البطل المسؤول المتنفذ بقوامها الباذخ تحت نقابها الأسود الحريري الفضفاض تجسيدًا لهذه اللحظ، فيسرب لها ورقة تنقذها هي وشركتها من تهم بالفساد والغش. وبعد أن تأنس له، وتجذبها شخصيته تسدد له ديونه التي طلبها في مقابل ذلك.
من العلامات الفنية اللافتة في هذه المجموعة الشيقة، الاحتفاء بالحضور الإنساني، حتى في أقصى لحظاته تناقضًا وتشوهًا، بخاصة في علاقته بالسلطة. وهو ما يطالعنا في قصة "مستعمرة الجذام" أطول القصص الخمس، حيث يبلغ التهكم والسخرية ذروتهما دراميًّا، من سلطة شائخة فاسدة تحولت إلى مستعمرة مليئة بالأوبئة والأمراض، لكن دائمًا هناك جوقة تتمسح بها، لتنعم برضاها ومنافعها... يفضح التهكم كل هذا ويحوله إلى كرنفال من العبث، ويسرّب الكاتب السارد في طوايا السرد إشارات ورسائل ضمنية شديدة السخرية، عن معنى المثقف الحقيقي، وكيف تتحلل القيم والأفكار، وتصبح مرادفًا للفساد والتشيؤ، في مقابل رسالة أكثر عمقًا ونبلاً حرصت المجموعة على إبرازها، وهي أن سلطة المعرفة لا تنفصل عن سلطة الضمير.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.