عيار 21 الآن بعد الانخفاض.. سعر الذهب في مصر اليوم الخميس 18 أبريل 2024    مبارة صعبة لليفربول ضد اتلانتا بإياب دور ربع النهائى للدوري الاوروبي .. موعد اللقاء والقنوات الناقلة    بسبب منهج المثلية | بلاغ للنائب العام ضد مدرسة بالتجمع    تعرف على موعد إجازة شم النسيم 2024.. 5 أيام متصلة مدفوعة الأجر    أحلام العصر .. جاجوار لاندروفر توقع اتفاقية تعاون مع شيري الصينية    شعبة الأجهزة الكهربائية: الأسعار انخفضت 10% خلال يومين وتراجع جديد الشهر المقبل (فيديو)    د.حماد عبدالله يكتب: "بداية نهاية العوار الدستورى"    سعر السكر والزيت والسلع الأساسية بالأسواق اليوم الخميس 18 ابريل 2024    الجزائر تقدّم 15 مليون دولار بشكل استثنائي لدعم الأونروا    الاتحاد الأوروبي يفرض عقوبات على إيران    بينهم 3 أطفال.. ارتفاع ضحايا القصف الإسرائيلي على رفح إلى 5 شهداء    الحكومة الأمريكية ترفع الرسوم على واردات الصلب الصيني بنسبة 200%    رئيس حزب الوفد ناعيا مواهب الشوربجي: مثالا للوطنية والوفدية الخالصة    الهزيمة بهذه الطريقة تؤلمني، أول تعليق من جوارديولا بعد الخسارة أمام ريال مدريد    استعدادا لمواجهة مازيمبي| بعثة الأهلي تصل فندق الإقامة بمدينة لوبومباشي بالكونغو    مفاجأة.. مارسيل كولر يدرس الرحيل عن الأهلي    إعلامي يكشف بشرى سارة لجماهير الأهلي    بابا فاسيليو يكشف عن تجاربه السابقة مع الأندية المصرية    الأرصاد: الحرارة تتجاوز ال46 درجة الأيام المقبلة ووارد تعرض مصر إلى منخفض المطير الإماراتي (فيديو)    بعد 24 ساعة قاسية، حالة الطقس اليوم الخميس 18-04-2024 في مصر    مطار القاهرة يهيب وسائل الإعلام بتحري الدقة حول ما ينشر عن الرحلات الجوية    انتداب المعمل الجنائي لمعاينة حريق منزل في العياط    أوبو تكشف عن هاتفي A1s وA1i    برج القوس.. حظك اليوم الخميس 18 أبريل 2024: مساعدة صديق    مدير أعمال شيرين سيف النصر يكشف أسرار الفترة الأخيرة من حياتها قبل وفاتها.. فيديو    فستان لافت| نسرين طافش تستعرض أناقتها في أحدث ظهور    أحمد التايب: مصر تنشد نصرة القضية الفلسطينينة وتحقيق التنمية المستدامة رغم كل التحديات الإقليمية    إطلاق الإعلان التشويقي الأول لفيلم TRANSFORMERS ONE في الفضاء    علي جمعة: الرحمة ليست للمسلمين بل للعالمين.. وهذه حقيقة الدين    آية تقرأها قبل النوم يأتيك خيرها في الصباح.. يغفل عنها كثيرون فاغتنمها    «معلومات الوزراء»: 1.38 تريليون دولار قيمة سوق التكنولوجيا الحيوية عالميًا عام 2023    «الأرصاد» تعلن حالة الطقس ال 6 أيام المقبلة بداية من الخميس 18 أبريل 2024    بحجه تأديبه.. التحقيق مع بائع لاتهامه بقتل ابنه ضربًا في أوسيم    لقد تشاجرت معه.. ميدو يحذر النادي الأهلي من رئيس مازيمبي    طاقم حكام مباراة الإسماعيلي وزد في الدوري المصري    موعد بدء التوقيت الصيفي 2024 في مصر (اضبط ساعتك)    الجامعة البريطانية في مصر تعقد المؤتمر السابع للإعلام    فلسطين.. جيش الاحتلال الإسرائيلي يقتحم بلدة صوريف شمال الخليل    حظك اليوم برج الميزان الخميس 18-4-2024.. «كن مبدعا»    طارق الشناوي: اللغة العامية لم تجرح «الحشاشين».. وأحمد عيد كسب الرهان    طارق الشناوي: لست ضد أغاني المهرجانات لكنني أعترض على الإسفاف    ارسنال ومانشستر سيتى آخر ضحايا الدورى الإنجليزى فى أبطال أوروبا    تراجع سعر كارتونة البيض (الأبيض والأحمر والبلدى) واستقرار الفراخ بالأسواق الخميس 18 ابريل 2024    أسباب نهي الرسول عن النوم وحيدا.. وقت انتشار الشياطين والفزع    مصرع طفل غرقًا بنهر النيل في المنيا    رئيس جامعة المنوفية يتابع المرضى من الأشقاء الفلسطينيين بالمستشفيات الجامعية    لماذا فشل جيش الاحتلال في صد هجوم "عرب العرامشة"؟    نشرة منتصف الليل| خفض سعر الرغيف الحر وتوجيه عاجل للحكومة بشأن الكلاب الضالة    المتحدث الإعلامي للإخوان : الجماعة تجدد الدعوة إلى وقف الحرب في السودان    زوجي بيضربني وبيعايرني باللقمة.. ماذا أفعل؟.. أمين الفتوى يرد    "ضربها طلقتين في بيت أبوها".. قصة مقتل ممرضة على يد زوجها لطلبها الطلاق بعد الزفاف    ماذا قال "القومي للمرأة" في رصده وتحليله لدراما رمضان 2024؟    إطلاق النسخة الأولى من المهرجان الثقافي السنوي للجامعة الأمريكية بالقاهرة    صحة فاقوس: مقاومة يرقات الذباب واستمرار العلاج الاقتصادي بالشرقية    حسام موافي يحذر: نقص سكر الدم خطر على هذا العضو    عدد أيام إجازة شم النسيم 2024 .. «5 بالعطلة الأسبوعية»    بعد تحذيرات الأرصاد.. «الصحة» توجه 7 نصائح للتعامل مع التقلبات الجوية    أبرز أدعية شفاء المريض.. تعرف عليها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شبح طائرة ورقية: السرد الحسي
ذو النزوع إلي المجرد
نشر في أخبار الأدب يوم 30 - 04 - 2016

يقدم هشام أصلان في مجموعته القصصية الأولي "شبح طائرة ورقية" الصادرة عن "دار العين" عالما فنيا خاصا في اثني عشر قصة قصيرة، نماذج متنوعة ذات طبيعة إنسانية شفافة، يرسم شخصيات كأنها من مادة السحاب أثيرية، سابحة في الوجود، لكن لكل منهم طريقته، جميعها تسعي إلي الحرية فتعلو علي القيود الواقعية.
يلتقط القاص الأشياء والمشاعر البسيطة للغاية ويكسبها بعدا إنسانيا ونفسيا عميقا، كأن أصلان الابن ينسج سرديته الخاصة التي تتحسس شعرية الأساطير والأحلام، فتبدو نماذج الشخوص بالمجموعة وكأنها تتطاير وتشف، ومن هذا الوجود الخفيف الذي يبدو بينيا ما بين الحقيقة والأشباح تخير القصاص اسم مجموعته "شبح طائرة ورقية".
فالشخصيات معظمها تقدم كأنها ظلال وجود لكائنات تتطاير، أو تبدو كأنها أشباح من حيث درجة ثقلها في هذا العالم، ما يربطها به بالفعل مجرد خيط واٍه ضعيف يصنع حالة من الوجود المفارق، تمتلك تميزها متي وضعت في لقطات وأحداث توتر تبرز إنسانيتها العميقة، فتقدم الشخوص حالة من الوجود العابر دون تصريح برسالة موجهة إلي القارئ. فنجد "حسين" "في أصوات الممر" " كأنه التقي بنشيد صوفي لا يسمعه أحد غيره"، والعروس الجديدة الجارة في "علي واجهة السبيل" تعشق الحلم وتبوح به في طقس جماعي تمارسه النساء، تعشق "أميتاب بتشان" ربما للهروب من واقع لا يلبي حاجة عواطفها، فهي لا تقصد الخروج علي التقاليد أو الشريعة والأعراف، تتملكها روح فنانة ترسم الخطوط بمهارة فائقة رغم أنها لا تعرف القراءة والكتابة، يتخيرون رسمها للحروف علي السبيل الخيري لإبداعها الفطري، فالحياة والفن والحيوية دائما ما تواجه الموت والحياد أو القبح.
في قصة "مجرد رائحة" تظل شخصية السارد تعيش أسطورتها الموروثة في وعيها العميق من خلال قراءاته، تخرج من ذاكرتها زهور الفل السحرية، ومدينة كل نسائها يلضمونه ويتزينون به، مخيلة ترفض الانصياع لسطوة الواقع الذي يخلو من السحر والجمال ومفارقة الأسطورة عندما ذهب إليها السارد، في قصته "رقص السنة" تتجلي المفارقة بين المتاح وتصورنا لعالم آخر يستقر بوعينا من الحكايات التي تشكل وجداننا أو فن السينما بما يميزه من سحر خاص.
يلتقط القصاص نماذج بشرية بسيطة لها أحداثها العادية واليومية ثم يحمًل هذه النماذج إشارات وجودية شديدة الإنسانية والرهافة تصنع في كل قصة حالة بين الوجود الواقعي وبين الانفصال عن هذا الواقع ؛ لخلق عالم بديل ينحو إلي تعالي صوفي ينجو من وطأة واقع ثقيل، كما تبدو شخوصه كأنها حيادية لا تبتغي توصيل رسالة معينة.
تشكل معظم قصص المجموعة شريطا ممتدا مصورا لنماذج بشرية تتكئ علي الذاكرة الحسية والنزعة الإنسانية، تسجل لمراحل من حياة الإنسان وحيوية طبيعته، وتنوع أفراده ضمن الوجود البشري، في مدن لم تزل تلفها غلالة من دفء المشاعر الإنسانية وانتصارها للحياة والجمال، رغم ثنائية الموت والحياة التي تقفز دائما في السرد، ونواجه فيها بحتمية النهايات.
نماذج تعلو بإنسانيتها:
ينتصر القصاص لهذا الجانب المتعالي، غير المادي بالبشر وغير المنضوي في ثقل الواقع وحياديته أو قبحه مثل أن يظل الضوء الخافت مجهول المصدر في نهاية الشارع الضيق في "مجرد رائحة"، كما يتجلي في نموذج قصة "الفاكهة" هذا الجانب الإنساني الطارد للطمع رغم ضيق حاله، الإنسان المتعدد الطبقات رغم بساطته وتهميشه، القادر علي السخرية من ذاته وهو ينادي علي بضاعته فيقول: "يا أقرع زي دماغي يا بطيخ"، مرونة التغلب علي الحياة بمتغيراتها فتتغير بضاعته من موز إلي برتقال إلي بطيخ، مواطن متابع للسياسة فلم يزل حلمة مستيقظا منذ الفترة الناصرية، كما أن عينيه كأنما تبحث عن حلم بعيد قد يتراءي له في فيلا بيضاء تخاتله أطيافها، يرسم القصاص شخصية نصه بإشارات سريعة ومكثفة، اقتصاد في الوصف، لكنه يذهب بمتلقيه إلي تكوين صورة تشمل جوانب متعددة من هذا النموذج. مع ملاحظة أن جميع نماذج القصص إلا قصة "أصوات الممر" بلا أسماء وكأنهم غير محددون بأبعاد جسدية، فهي نماذج تتكاثر بإنسانيتها وشفافية أرواحها لا بكونها هذا المتعين الفرد، المنحصر داخل الاسم، فيبرز القصاص جوانبهم الإنسانية فقط التي يتمايزون من خلالها، هم أيضا بلا أدوار فارقة، لكنهم قدريون إلي حد كبير. كل منهم يحمل بداخله سؤال الفلسفة الطفولي البسيط، والقصاص غير معني بالرؤي الفلسفية قدر عنايته بأن يلامس الجزء الإنساني كإشارات وعلامات فارقة في نماذج قصصه، القاص يشير، وعلي القارئ أن يكمل تلك الفجوات من ذاكرته وثقافته أن يرسم هؤلاء الأفراد وكأنهم أطياف تتطاير.
كما يستخدم القصاص مجموعة من آليات السرد لرسم هذه النماذج تتنوع بين: طريقة تتابع السرد بتلك الإشارات الدالة المتناثرة، نقطة البداية التي تذهب بالقارئ لمنطقة أثيرية تشبه الحلم، وذروات هاربة لا تلتقطها إلا ومضا ضعيفا، ونهايات مفتوحة أو متباعدة عن سياق السرد ذاته، تقنية الحلم، والاتكاء علي الرمز والكنايات.
وتتميز هذه المجموعة بقدرتها علي توافر مستويات مختلفة من التلقي، وخاصة في قصته "ثلاث كؤوس أخيرة"، فكل الأشياء العالقة بالذاكرة واقعية أو أسطورية أو تخص أحلام الطفولة ونقاءها تتشوه وتختفي تدريجيا جمالها، يبقي منها فقط أجزاء باهتة تظل تترك أملا للذات الساردة التي تأبي أن يختفي هذا التماس السحري مع العالم.
وحيث تبدو برقي ظلال العلاقة بين أب وولده ويضطلع السارد بحكي شفاف، وزاوية ربما تبدو غير متواترة في تلك العلاقات الأسرية لكنها تنم عن علاقة خاصة فيها نوع من الصداقة المتحررة العميقة. في الجزء الثاني من القصة تخيم علي الأجواء صدمة الفقد لكن تظل الذاكرة تستدعي لحظات حميمة بين الابن وأبيه سعدا فيها معا وتصبح زجاجة الكونياك أيقونة يخرجها الابن ليستدعي ذكري أبيه واللحظات التي عاشاها معا.
يعود تعدد مستويات التلقي لدقة وحساسية المشاعر التي يلتقطها القصاص وأيضا لطرق التعبير عنها عن طريق لغة تلمح باقتصاد شديد للمعني الكامن لكنه معبر عن تلك المناطق الشعورية الدقيقة.
مابين إبراهيم أصلان الأب وهشام الابن يوجد مشتركات وإن اختلفت طبيعة وشعرية سردية الابن المسكون بهاجس المغايرة، ربما تمكن الأب هذا الجراح البارع من أدق الشعيرات الدموية التي تشكل نسيج حياة المهمشين واستطاع أن يشير ببراعة إلي الكامن بذواتهم ويشكل هويتهم الخاصة، كما ينحو لالتقاط جانب روحي عميق بأبطال قصصه ورواياته، يتلاقي الابن مع الأب في هذا التوجه لكن بنكهة وطريقة مختلفة، ربما في إرادة الاتساع بعوالم الرؤية، ورغبة الخروج عن المكان الذي سحر والده (إمبابة وشارع أبو الفضل عثمان)، ربما بدا الاختلاف في لعب الابن علي تفرًد الذات، يلعب هشام أصلان علي الخصوصية الفردية، بينما يرسم الأب نماذج تتواتر بالحياة لأنها تتضمن هوية مصرية خالصة ارتبطت بالمكان الذي تتراكم طبقاته الجيولوجية كما تتراكم ثقافاته بفعل الامتداد الزمني، أيضا لكل منهما طقس لغته الخاصة.
بعد أن انتهيت من المجموعة أدركت نسبيا الصراع الذي أتصور مدي احتدامه في نفس المبدع الذي يستهل خطواته الأولي، اختياره لطبيعة سرده، وإرادته لأن يختط لذاته بصمته الخاصة التي هي بلا شك تحمل بعض الجينات الموروثة والتي تربت مع تكوينه الثقافي ونوع الذائقة وأول ما قرأ، والمناقشات مع الأب وملاحظاته العابرة, أستطيع أن أتصور أن نداهة شارع أبو الفضل عثمان قد حاصرته طويلا حتي ولو كان الحصار سلبيا، أي برغبة أكيده في الفكاك منها، وإن كانت ظلال المكان الحميمي لم تزل تتراءي في خلفية قصه، وفي القاع العميق من الذات الساردة حيث الوعي بمكان قديم وبشر بسطاء لكن تتمتع نفوسهم بالغني الإنساني. تبدو المدن لدي هشام أصلان كما في "شرفة الشارع الخلفي" مخالف لإمبابة لكن تظل ظلال شارع أصلان الأب في ذاكرة القصاص فتتراءي أحيانا بعض خصائصه وسمات أفراده.
شعرية التفاصيل التي تعبر السرد لدي أصلان الابن دون غيرها هي ما تصنع هذه العوالم العالقة بذهنه بغض النظر عن درجة تحققها في الواقع أو تخيلها، الاستهلال في "دمية عملاقة تبتسم"، كيف تأتي أصوات الضوضاء إليه في مدينة الملاهي، حيث يتحوًل الأمر من إطار الواقع إلي منطقة أخري رمزية كنائية، تهيئ لعالم آخر يدخلك فيه القاص من خلال الوصف الذي يجعلك تفارق هذا العالم لتشاركه عالمه. ربما الدمية هي الكرة الأرضية، أو ربما تحولت لبشري يشاهد مظاهر حركة وصراع الناس، ويسخر منها ص34. في قصة "ابتعاد خفيف" تهيئ القصة منذ بداية السرد للذهاب بالقارئ إلي منطقه أخري وكأن القصاص يصنع تعاويذه السحرية بالكلمات لينفذ بنا من صلابة حائط الواقع لمنطقة نفسية أخري رخوة ومتحركة، وجود مفارق، مثل أن يقول:"الجو مختنق برطوبة عالية، والرؤية في الأفق ظهرت بها موجة خفيفة، تتجلي علي منزل كوبري معدني، ليبدو مثل الزحاليق التي تنحدر إلي حمامات السباحة."37.
منطقة مابين الحلم والحقيقة أيضا في قصة "رقص السنة" بداية من الاسم، ثم إبراز مخيلة الطفل ومرجعياته التي تعود للسينما أو قراءاته التي تحكمها البكارة والدهشة في مشهد المفتتح ص29، ثم الوعي بضآلة المتحقق مقارنة بالخيال ومشاهداته من السينما وما يترتب علي الرؤية البصرية من خيال أكثر اتساعا في مقابل فقر المتاح الواقعي، ووصف تفاصيله التي توحي بتواضعه، رغم أنه تظل له جمالياته الخاصة التي تفصح في دلالتها العميقة عن نوع من الرضي الإنساني السمح والقادر علي تكيف الذات مع الواقع .
يتضافر هذا أيضا مع تراكب الصور الذهنية المتخيلة تجاه العالم في "رقص السنة" التي تفضي إلي خلق هذا العالم المنسوج بالحلم والأسطورة، كأن السرد يخلق ذوات منعتقة من حدود إمكانات الواقع يقول وهو يتحدث عن بابا نويل:" مرة جاء بطاحونة هواء..كانت مشغولة من رقائق خشب أصفر، لتشبه برج حمام.. اضعها علي سور البلكونة المغطي بالجير أيضا وأجعل اللوح في مواجهة أشعة الشمس" 31.
وعندما يعبث الإنسان في الحلم ويبدأ في فض مغاليقة تفسد الأشياء وتلك إحدي نهايات القصص المفتوحة التي تغلب علي المجموعة.
أثيرية السرد القصصي:
كيف يبدع القصاص سرده ليلتقط شعرية القص الأثيرية تلك التي لا تفصح عن ذاتها إلا بكونها خلفية غائمة وبعيده في تقنيات السرد، لو افترضنا أن كل قصة من قصص المجموعة لوحة تشكيلية لشخصية أو مدينة أو فكرة لكانت خلفية هذه اللوحة شعاع بعيد أو بؤرة إضاءة تمثل الشعرية الناعمة، طيف الإنسانية التي تومئ بها القصص، مثل ألوان بينية سحرية، تكثيف الإضاءة علي زوايا محددة من اللوحة التشكيلية، خلق عالم تنبعث به إضاءات خافتة لكنها مؤثرة بالحياة.
يستهل هشام أصلان مجموعته بسردية عميقة الشعرية في "العلامات المستديرة" وفيها يقدم ذاته المبدعة علامة جديدة تبحث عن خصوصيتها، ومن ثم وجودها المتفرد، خاصة لأنه ورث علامة أصيلة حفرت في تاريخ الوجدان المصري، فإذا به يعلن حنينه وانتماءه، لكنه يستحث علامته الخاصة في التشكًل، دائرة جديدة، يقول:" العلامات المستديرة/ التي تتركها أكواب الشاي والقهوة/ علي الأسطح الخشبية، لاتشوه الأماكن./ سوف تصير، بعد سنوات، سببا للدفء، الحنين، وربما الطمأنينة./ ليت الأمهات يتركنها لأطفالهن./ سينشغلون بمحاولة وضع أكوابهن مضبوطة علي العلامات./ لكنها،/ في الغالب،/ سوف تصنع دوائر جديدة." ص11" العلامات المستديرة فكرة الأجيال والمغايرة المجدولة بالحنين والاحتياج للقديم، وهو ما أراد هشام أن يفك اشتباكه منذ لحظة وعيه الإبداعية الجديدة.
كما تتميز سردية المجموعة بوطأة وجود بعض الدوال الحسية التي تلعب علي حواس الإنسان التي يستقبل الحياة بها مثل الرائحة، الصوت، النظر وخاصة فيما يتعلق ببعض الالتفاتات الغرائزية المتعلقة بأنوثة المرأة وجسدها، تلك المداخل المادية تلتقط العادي واليومي من الأحداث وتضخ بها فلسفة وجودية إنسانية تلتقط لحظات التوتر الحسية بحياة النماذج البشرية منذ الطفولة وتدرجا بمراحل الحياة، وهي إذ تفعل لا تجد غضاضة لدي المتلقي لأنها تأتي عبر سياقها الإنساني الطبيعي، يقول في شروخ وهمية :" تعرف الابنة الوسطي إني اشتهيها.. تهمل إحكام جلبابها أثناء الجلوس علي الأرض، لأري ملتقي ساقيها الممتلئتين الخمريتين.." 53،،54 كما في قصته "علي واجهة السبيل".
التقاط العادي من الأحداث وضخ المعاني البعيدة والعميقة بها، بالأشياء، بجوهر الإنسان وغرائزه ويشكل هذا ملمح رئيس بالمجموعة، ثم تحميلها بمعني وجودي فلسفي يختص بالتكوين المركب للإنسان بداية من الذاكرة التي تحمل طفولته بأحلامها المنطلقة، لاوعيه وما ترسب فيه من إنحناءات نفسية فارقة، الأساطير والحكايات القديمة والألعاب منذ الطفولة، اللاوعي الجمعي بكل ما يكتنزه من موروثات مجتمعية.
في "الغرف الإضافية" هناك إشارات لثقافة العشوائية التي بدأت مع العصر الساداتي التشوه في المكان وفي الشخصيات ذاتها، الحياة الرخيصة التي تستهلك سريعا، في الغرف الإضافية كأنها حياة تقترن بالموت والولادة واحتفال بأعياد الميلاد، الكبير والصغير ضمن منظومة الحياة، النساء والرجال، ذات الزحليقة الحقيقة الواحدة كيف يراها الأب وكيف تراها الصغيرة ابنته؟ تلك الثنائيات في حالة من التعايش والتواجد في دائرية الزمن.
الجدار الأيمن علي المحارة، باب معدني متهالك لمصعد، تلعب الكناية والرمز وبعض من المجاز الذي لم تسرف فيه لغة المجموعة دور في تكثيف بعض علامات حياة الشخوص مثل الطبقة، الواقع السياسي والاقتصادي، المستوي الثقافي، ففي قصته "أصوات الممر" يختصر ويكثف القصاص الحكي باستخدام شذرات وإشارات وصفية ليشير إلي دلائل يستطيع المتلقي أن يكمل معه منظومة إبداع سرديته، يقول"فكرت في كيفية أن يذهب عن الواحد كرشه الكبير بسبب الإعياء ثم يظل بطنه دون ترهلات تذكر" ص14
ربما تبدو الحياة في "أصوات الممر" هذا الممر الطويل للمستشفي في وطن تتحكم به منظومة من الفساد، العطن الذي يتصاعد من رائحتها عطن لا يستحوذ علي الإنسان في طفولته وشبابه لكنه يتحكم به عندما لا يقوي علي ثقل الأمل في أوطان لا تكترث بالإنسان، وربما المصعد هو رحلة النهاية حيث يصعد الإنسان إلي يأسه.
يستخدم القصاص أيضا تقنية حلم عبثي يصور السارد فيه نفسه وهو ممسكا بسنارة يصطاد بها بعض الأسماك من "قصرية" كناية عن النفايات المتعددة بهذه الحياة.
منذ المفتتح الذي يختاره الكاتب يقول فيه:"أنا من يفتح الأبواب، ولا يعرف كيف يغلقها، وينام" لسركون بولص ونحن أمام حالة إبداعية مميزة تتحري إشارات إنسانية أثيرية في القص كما تتخير أن تبقي نهاياتها مفتوحه كانفتاح هذا العالم واندياح العلاقات به، وتنوعها المثير للفروق الدقيقة بين كل حالة والأخري.
تتراوح النهايات بين نهايات مفتوحة في أغلب قصص المجموعة وهناك نهايات بينية تنم عن توزع الانتماء في قصة "ابتعاد خفيف" وضياع ملامحه.
في الجزء الثاني من نص "ثلاث كؤوس أخيرة" هناك عودة زمنية لزمن الحدث الأول حيث ذكرياته مع والده بعد أن كان القصاص قد تجاوزه في الجزء الأول من القصة، تلك العودة لا تأتي عبثا بل تدل علي مفارقة ساخرة من شخصية السارد، كما أنها تشتبك نقديا مع واقع وموروث ديني يتحكم في واقع آني بمد أصولي غليظ الوطأة. في النص الأول "أصوات الممر" الحلم يقوم باللعبة الزمنية" في "علي واجهة السبيل" هناك انتقالات زمنية لأزمنة القص سريعة وخاطفة لتلتقط نقاط توتر محددة وتترك فراغات سردية متعددة من حق القارئ وقتها أن يملأها بمخيلته أو تظل شاغرة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.