بقلم : سعود عيسوي حين يكون الوجه الإنساني موضوعاً للتأويل والاستبطان والبحث عن المعنى! سلط معرض "وجوه" الذي يقيمه مركز رؤى32 للفنون، ويستمر حتى نهاية شباط/ فبراير الجاري الضوء على أحد الموضوعات الأثيرة في الفنون التشكيلية، والذي لم يخفت الاهتمام به على مر العصور والحقب الزمنية، حتى بعد اختراع الكاميرا والاعتقاد بحلول الصورة الفوتوغرافية محل الصورة المرسومة بريشة الفنان. والواقع أن معرض "وجوه" الذي جمع بين جنباته عشرات الأعمال التي جعلت من الوجه الإنساني موضوعاً لها، بمشاركة 25 فناناً في العالم العربي والقارة الأوروبية، ليس معرضاً للبورترية أو رسم الهيئة لوجوه أشخاص بعينهم، وإنما هو معرض يتعامل مع الوجوه، باعتبارها وجوهاً مبهمة، دون أن يكون لها في الغالب الأعم أسماء معروفة أو انها رُسمت بطلب منها، أو باتفاق بين الفنان وصاحب الصورة. وبكلمات أخرى فان الوجوه في المعرض المذكور هي نتاج تفاعلات الفنان مع موضوعه أكثر مما هي "تمثيلاً" حرفياً لوجه أشخاص بعينهم. ومن هنا فان المعرض يبرز بالدرجة الأولى التباينات الأسلوبية والرؤى الخاصة للفنانين المشاركين للوجوه التي يطالعونها، وكأن الوجه البشري بات بمثابة المادة الخام لتعامل الفنانين وموضوعاً مجرداً عن الصفات الشخصية لأصحاب الصور الأصلية. فلا أحد يبحث عن الشبه مع أصل الصورة، وإنما يتركز الاهتمام على الكيفية التي تعامل فيها الفنان مع موضوعه. وبهذا المعنى فان معرض "وجوه" يضع المتفرج في حالة حوار مع الفنانين المشاركين، يتناول أحاسيسهم ورؤاهم وهم يرسمون هذه الوجوه، ويطرح تساؤلات عن خلفياتهم ومرجعياتهم البيئية والثقافية، كما يدعو المتلقي للتأمل في أساليبهم وتقنياتهم أثناء تعاملهم مع موضوعة الوجوه، وكأن الموضوع هو ما خلف الصورة وليس الصورة ذاتها. والواقع ان هذا التطور في التعامل مع الوجه الانساني من خلال اللوحة نشأ جراء تحرر الفنان منذ عصر ما بعد الثورة الصناعية، من وظيفة النقل عن الطبيعة، أو من جعل لوحته مرآة للواقع، لتصبح مرآة لروحه وعواطفه وخلفياته ومراميه الضمنية أكثر من أي شئ آخر. فالكاميرا أعفت الرسام من إلتزام الأصل أو مهمة النقل الدقيق للصورة، وقد بدأت عملية التحرر تدريجية، مع ثورة المدرسة الانطباعية أو التأثيرية في نهاية القرن التاسع عشر، وتمادت أكثر مع تحول الفنون نحو التجريدية والسريالية وغيرها من المدارس الحديثة وما بعد الحديثة. إبان تلك الانتقالات تحرر فن البورترية من أسر أصحاب الثراء والقوة أو السلطة، ثم من الأغراض الدينية والدعاوية، أو تمجيد وتخليد أصحاب النفوذ والسلطان إلى الاحتفاء بالرجل أو المرأة العادية، وباتت قوة البورترية أو رسم الوجه نابعة أكثر من المعاني التي يمكن استنطاقها من أصحاب الوجوه أنفسهم بغض النظر عن موقعهم الطبقي أو الثقافي أو السياسي. أو بكلمات أخرى بات فن البورترية أكثر قرباً من إنسانية الانسان ومن تسجيل "لحظته" الخاصة، أو الافصاح عن ماهيته في تلك اللحظة الأثيرة التي تجمع ما بين الفنان والشخص موضوع الرسم. وكما أشرنا من قبل لم يُغير تبدل العصور وتعاقب الحضارات من الاهمية الاستثنائية للبورترية أو الرسم الشخصي للوجه في الفنون التشكيلية. لا بل يمكن القول بأن رسم الوجوه بات الموضوع الأثير للفنانين في السنوات الاخيرة، حيث نجد أن الوجوه ذات الحجوم الكبيرة تغطي قماشات الفنانين، الذين حولوا تضاريس الوجه الانساني الى ما يشبه المشهد الطبيعي من حيث كثافة الالوان وتنوعها وتعدد الاساليب التي تتصدى لرسمه. وضعت التطورات بل الثورات التقنية التي طالت كاميرات التصوير الفوتوغرافي واجهزة الفيديو، وإنتشار أجهزة العرض التلفزيوني العملاقة والثورة الرقمية عموما الفنون التشكيلية أمام تحديات ضخمة، وخاصة منها المتعلقة بموضوع الوجه، فهل أخلى التشكيليون مكانهم امام الطفرة الرقمية و التقنيات الحديثة، أم ما زال في جعبتهم ما يقولوه او يضيفوه الى الرصيد الهائل من الرسم للوجه البشري عبر التاريخ. معرض "وجوه" في مركز رؤى32 للفنون، ومن خلال مساهمة 25 فناناً وفنانة تشكيلية من اوروبا والعالم العربي والاردن قدم الجواب، من خلال عشرات اللوحات التي تعاملت مع الوجه الانساني بمقاربات شديدة التنوع ، جعلت من صفحة الوجه البشري مرآة لتفاعلات الرآي مع المرئي، فماذا رأى كل منهم في الوجه المقابل له، وكيف تفاعل معه وكيف ترجم ما رأه في لوحته؟ ان الجواب على ذلك يقتضي اكثر من زيارة لهذا المعرض الاستثنائي. ففي الوجوه المعروضة تتكثف خلفيات الفنان وبيئته وثقافته ومزاجه النفسي وتمتزج في عجينة واحدة مع اسلوبه الفني وتقنياته وخاماته، لتنتج عن ذلك قراءة مكثفة للنفس الانسانية كما تبدو في وجوه تنتسب الى جنس بشري واحد، لكنها تتقولب في هيئات لا حصر لها من الحالات والخصائص والامزجة، وكأنما المعرض هو إحتفالية أممية تحتفي بالاختلاف وتتباهى بالتعدد. الأعمال الأوروبية في المعرض تلفت أعمال ايريك فورموي النرويجي (مواليد 1953) بطابعها الايقوني، حيث يرسم على قطع من الخشب القديم لوحات صغيرة لوجوه رجال ونساء بواقعية محدثة. أما هارتز الاسباني (مواليد 1977) فانه يقطع الوجوه التي يرسمها بخطوط رأسية سميكة تجعل أعماله على مسافة ما بين التشكيل والجرافيك وتحيل العادي إلى فني. أما كونراد روسيت الاسباني (مواليد 1985) فهو يعمد إلى الرسم بأقلام الرصاص الملونة والأحبار لوجوه نساء في أوضاع عديدة تكسر الحاجز ما بين صالات العرض ومجلات الموضة، أما غيم تيو الاسباني (1987) فهو يسرد صور أصدقائه التي يطالعها على الفيس بوك من خلال الشغل عليها بالرسم، بحيث لا يبقى من الأصل الفوتوغرافي إلا جزء صغير من الوجه مثل الأنف أو الفم. سيرجيو لونا الاسباني (1979) يقدم من خلال الصورة الفوتوغرافية الوضع المزعزع للانسان المعاصر عن طريق تحريك عدسة الكاميرا على الوجه، ويقوم سيزار بيوجو الكولومبي (1981) بالتوليف بين الرسم الواقعي وادخال "تشويهات" ولمسات اضافية ليضفي على وجوهه سمة الحركة أو عدم الثبات. اما الفنان الفرنسي ستيفان فيلافان (1969) فهو يعمد الى اختزال الوجوه في هيئتها العامة وحذف حتى أهم ملامح الوجه ليبقى على خيالات أو ظلال الوجه. مونيك فان ستين الهولندية (1976) تقدم أعمالاً ضخمة ومتوسطة وصغيرة لوجوه نساء جميلات بأسلوب أقرب إلى رشاقة العمل الصحفي أو الاعلاني من خلال خطوط مختزلة وألوان صريحة تقترب من فن الملصق وعوالم هوليوود. ديدي ديامه الفرنسي (1980) يدمج وجوهه في إطار إعلاني تقطعه أشكال هندسية تجعل من أعماله أقرب ما تكون إلى الملصق. أما لانتامو الايطالي (1978) فهو يرسم وجوهه بحساسية بالغة على صناديق صغيرة من الخشب محملاً إياها شحنة كبيرة من العاطفة. وجوه الفنانين العرب المشاركات العربية بدورها حافلة بالتنوع، وتتضمن وجوه فؤاد ميمي (الأردن- 1949) بأسلوبه الواقعي/ الانطباعي الرصين. وهناك مقاطع من وجوه نسائية للسعودية تغريد البقشي (1975) بخطوطها المختزلة وألوانها الصريحة. بدر محاسنة (الأردن- 1977) يساهم بوجه واحد، أقرب إلى الرسم الذاتي، ميزته الضخامة والمونوكروم، أو اللون الواحد والتعابير الصريحة، عمار خماش (الأردن- 1960) يعامل في لوحته الوحيدة الوجه والجسد الانساني كما يعامل الطبيعة بضربات صريحة وكثافة لونية. أما سيروان باران من كردستان العراق (1968) فهو يقدم انسان "الربيع العربي" في وضعه الانتقالي ما بين الماضي والمستقبل، حيث الوجه المزدوج الذي يميز أعماله ينطبق على الحالة العربية اكثر من اي وقت مضى. وبدوره يقدم محمد العامري (الأردن) أربعة وجوه تظهر جرأته في نقل المشاعر، فيما يقدم عمر الاخرس (سورية) لوحة معبرة لوجه باكٍ باللون الأحمر القاني، وتغطي جزء منه أصابع يد مرتجفة تعكس- ربما- الوضع القلق لبلده سورية. أما الفنان السوري سهيل بدور (1957) فهو يعمد إلى إختزال الوجوه في هيئتها العامة وحذف حتى أهم ملامح الوجه ليبقى على خيالات او ظلال الوجه. عياد النمر المصري من خلال اعماله الثلاث يعالج الوجه الانثوي باسلوبه الجرافيكي الذي يجمع ما بين الألوان الصريحة والخطوط الرئيسية الحادة. أما وجوه محمد نصر الله (الأردن، 1963) فهي تنقل أسلوبه المميز من الطبيعة الى فضاء الوجه البشري. عدنان يحيى (الأردن، 1960) يكاد يكون استثناء من خلال عمله النصبي الذي يعلوه رأس معصوب الفم، وهو يدوي بصرخة كبيرة. أما بلاسم محمد (العراق) فهو يقدم وجهاً غامض الملامح لإمرأة حامل بخطوطه القوية وكأنما يتساءل عما يحمله المستقبل للمنطقة ولبلده العراق. ويساهم هاني الحوراني (الأردن، 1945) بعملين منفذين على صور فوتوغرافية بالأبيض والأسود لرجلين من بلاد الشام ويعودا إلى القرن التاسع عشر، حيث يعمل على إعادة إنتاج الصورتين من خلال إدخال الألوان على الأصل الأبيض والأسود مع الاحتفاظ بحساسية الصورة الأصلية. وأخيراً يشارك الفنان السوري المخضرم خالد المز (1938) بعدة وجوه تعكس مهاراته وتمرسه بفن البورترية، وتنقل حالات إنسانية عدة بأسلوب رشيق.