حين دخلَ الشقةَ التى تربى فيها طفلاً وكبر قبل أن ينتقلَ إلى بيتِ الزوجيةِ ، كانتْ الشقةُ خاليةً من أى أثاثٍ أو منقولات. الغريبُ إنه لمْ يكن يدرى أن قدماه سوف تقودهُ إلى هناك ولكن هذا ما حدث ، حين دخلها، تجولّ هادئ النفسِ فى أركانِها وكأنه يخافُ أن يوقظَ شيئاً ما موجوداً رغم خلوها الظاهرى والحقيقى فى ذات الوقتِ إلا من القليل النادر. على سجادةٍ قديمة جلسَ وقد أسندَ ظهرهُ للحائطِ ثم راح يتجولُ مرة أخرى فى الشقةِ ولكن هذه المرة بعينيه، هنا فى هذه الحجرةِ كان ينامُ والدى ، وهنا كان يصلى، وهنا كنتُ أذاكر أنا وأخوتى وهناك كان يحلو لأمى الجلوس. دقائق كل ما أخذه ليتذكر سنيناً طويلة من الفرح والمعاناة غريبٌ أمر هذا الإنسان ، يتذكر فى دقائق ما عاشهُ فى سنين طويلة ورغمَ ذلك لا يتذكر ما أكل البارحة. قامَ من مكانه ، راحَ ينظر فى مرآةٍ قديمةٍ معلقةٍ على حائط فى جانبٍ بأحد الحجرات ، حين نظر إليها لم ير وجههُ لكنه رأى وجه أبيه ، وجهٌ وسيمٌ يبتسمُ له رغمَ أنه حين توفى كان قد تعدى الثمانين من العُمر. الغريبُ أنه لم يرتجفْ وظل يبحلق ويحملق فى المرآة غير مصدق مايرى، نظر إلى وجه أبيه بشغفٍ ولم ينطق بكلمة واحدة ولكن الصورة نطقت معاتبةً : لماذا لا تأتى لزيارتى يابنى؟ ، لو كان والدهُ على قيدِ الحياة ، لنظرَ الأبنُ إلى الأرضِ خجلاً ولكنه لم يخجل ولم يتمنى فى هذه اللحظة أن تنشقَ الأرضُ وتبلعهُ ، و ظل يحملقُ فى وجهِ أبيه برهةً ثم قال : الحياة ياأبى ألهتنى عن زيارتك ، فلقد أصبحتْ حياةً صعبةً تبعثُ على اليأس أكثر مما تبعثُ على الأمل، وعلى الموت أكثر من اليحلة من الحياة أين أيامك أنت ياأبتِ؟..ابتسمَ الأبُ ثم قال: يابنى لا تتأخر عنى فى الزيارةِ ، فإنى أنتظرك ولتعلم أنى أحبك حباً شديداً وأتمنى لكَ كلّ سعادة. فى ذات اللحظة اختفى وجه الأب ليرى الأبنُ وجههُ هو. لم يعبأ الأبن باختفاءِ وجهِ أبيهِ وكأنه مسلوب الارادةِ أو كأنه كان متوقعاً لهذا الإختفاء،ورغم أن اللحظاتِ قد مرتْ عليه كأنها الحلم البهى ،فقد راح فى هدوء غريبٍ يسكب الماءَ على وجههِ ثم وجد نفسه دون وعى يتوضأ ويتجه إلى نفس المكان الذى كان والده يصلى فيه وصلى ركعتين ثم استدار خارجا من الشقة. بهدوءٍ شديدٍ أغلق الباب وراءه وكأنه يخافُ أن يوقظَ الذكرياتِ النائمةِ فى الداخل ثم ما لبث أن توجه مباشرةً لزيارةِ قبر أبيهِ ليقرأ الفاتحة.