من «جبل الطير» أطل الكاتب عمار علي حسن، على قرائه بروايته الجديدة التي تمزج ببراعة بين الواقع والخيال، والصادرة حديثاً عن مكتبة الدار العربية للكتاب. ورواية «جبل الطير» تنحاز إلى تيار «الواقعية السحرية» العربي، حيث تقيم جسراً عريضاً بين الواقع والخيال، يجتازه القارئ في يُسر، عبر نسيج سردي محكم، يبدعه الكاتب بدأب فلاح، وتبتُّل ناسكٍ، مانحًا شخوصه لحمًا ودمًا، يجعلها تتسلَّل من قلب التاريخ البعيد، لتدب على الأرض بيننا، وتشاكس البشر والشجر والحجر. وتطرح الرواية – التي صدرت في 648 صفحة من القطع المتوسط – ببراءة وبراعة، صوراً حياتية، وحالات إنسانية شيقة وشائكة، تلامس الواقع بقسوته، والخيال بنعومته، مارةً بصحارى الوجد، ومعارج الترقي، تلك التي لا تعترف بوجود صراع بين العلم والإيمان، بل تكامل وتآزر، باعتبارهما وجهين لعملة واحدة، ولأن كلا منهما ظهير للآخر في خندق واحد، يواجه – كل بأدواته وآلياته – الجهل والتشدد. ومنذ اللحظة الأولى، يحرص الكاتب على شدِّ انتباه القارئ، بإدخاله إلى عالم محفوف بالغموض، وممتلئ بالترقب، إذ يبدأ روايته قائلًا: «حين فتح الشيخ سمحان النافذة لم يجد الجبل مكانه. حملق بشدة مصارعاً جيوش النمل التي زحفت في شرايينه، ثم عصر عينيه وفركهما بقسوة، وعاد ليرشق بصره في كل شيء أمامه، والدهشة تملؤه، ممزوجة بالحيرة والخوف». ورغم غموض هذه البداية بالنسبة للقارئ، إلا أنه يدخل من باب سحري إلى عالم «سمحان» - الذي أجاد الكاتب نسجه – ويتبعه في رحلته الغامضة إلى مفازات الصفاء التام للروح.. بداية من رحلته «نحو الجنوب، حيث قرية طهنا الجبل، فهناك، بين المقبرة الساكنة تحت سفح الجبل ومخر السيول النابت من جوف الحجر إلى خيط الطمي الذي يمده النهر على ضفته، توجد مقصورة حتحور، وأكوراس، المدينة الرومانية البائدة، ومعبد نيرون، وعليه أن يحرس هذه الآثار التي تركها الغابرون».. تلك الوظيفة التي جاءته فجأة، وبلا ترتيب أو توقع منه: «لم تكن هذه الوظيفة تخطر له على بال، لكنها جاءته بعد أن زار والده موظفًا كبيرًا في الآثار من بندر المنيا، يمت إليهم بصلة قرابة، وقال له: أغلب أرضنا أكلها النيل ورمل الجبل، وابني عاطل. بعد شهر صدر قرار تعيينه خفير آثار، ليجد نفسه وجهًا لوجه مع تلك الأحجار القديمة، التي تنام في حضن الجبل، وتطل على أكوام متلاحقة من تراب بيوت ترنحت مكانها منذ آلاف السنين». وفي اليوم الأول لاستلام وظيفته الجديدة، التقى «سمحان» مع الحارس القديم «عبدالعاطي»، الذي «مدَّ يده وأخذ كف سمحان وداس عليها، وهو يمعن النظر إليه، ثم ابتسم وقال: أيامك معي لم تأتِ بعد، ستجيء وأنتظرها لكن بعد أن تضنيك التجربة». ومع تنامي الأحداث، وتسارعها، يكتشف القارئ أن اللغز الأكبر في البداية لم يكن سوى لحظة النهاية، وأن المشهد الأول هو نفسه المشهد الأخير، الذي يحمل بين طياته نبوءة عاش «سمحان» بها، وظل ينتظر حلولها حتى حان حينها، بعد أن أضنته التجربة.