من حق أي صاحب مال، أن يسعي إلي تنميته.. وإلي زيادة أرباحه منه، وإذا كان المبدأ يقول بحلالية التجارة وأموال التجارة.. إلا أن البعض يلجأ إلي وسائل رهيبة لتنمية هذه الأموال. فالتاجر يلجأ إلي المواسم والأعياد ليربح.. وما أكثر مواسمنا وأعيادنا.. ولما كان شهر رمضان في مقدمة هذه المواسم، فإن تجار كل شيء يتسابقون.. سواء تجار بلح رمضان- الذين ينتظرون الشهر الكريم ويستعدون له قبله بعدة شهور فيجرون وراء البلح المجفف سواء من الوادي الجديد والواحات أو سيوه، أو سيناء.. إو من قري نوبية، وياسلام علي بلح النوبة القديمة، وبالذات البلح السكوتي والإبريمي نسبة إلي قرية إبريم وقصر إبريم شمال أبوسمبل، أو الدر وحتي قسطل، ودنقلة- الآن داخل السودان.. تماماً كما يسعون وراء استيراد ياميش رمضان من سوريا الجريحة، وياسلام علي قمر الدين الشام والفستق الحلبي وهم الذين اخترعوا الكنافة التي يعشقها معاوية بن أبي سفيان.. من تركيا الطامعة فينا، حيث نستورد منها التين المجفف والزبيب والخروب والبندق وعين الجمل، وحصوة في عين «أردوجان» امبراطور العثمانيين الجديد.. أو الذين يستوردون القراصيا من أمريكا مع نوع من الفتسق واللوز.. أو حتي يستوردون الكاجو من الهند.. مع الزبيب الإيراني وكله يكسب.. حتي بلاد الطامعين فينا سياسياً من تركيا شمالاً إلي إيران «فارس» شرقاً.. إلي أمريكا في أقصي الغرب. ووسط هوجة استيراد ما يؤكل- لم لا وشهر رمضان بالنسبة لنا هو شهر للطعام، رغم ان الله سبحانه وتعالي جعله شهراً للصيام.. هناك «هوجة» درامية دائماً ما تشهد كل المصريين.. وهي لا تحلو إلا وسط أكوام مستلزمات التسالي من كنافة وقطايف وجيلاتي الفواكه- خصوصاً ونحن في عز الصيف- مع قوارب البطيخ المثلجة والكنتالوب حتي المشروب منه.. هنا تحلو مشاهدة التليفزيون.. حتي تكتمل منظومة الكسل المصرية الشهيرة.. فالمصري يأكل في هذا الشهر، أكثر مما يأكل في 4 شهور! ويتسلي بما يكفي لعدة أعوام.. خصوصاً وأن المصري يمكن أن يقترض ليلبي هذه المتطلبات غير العادية.. وبسبب كل ذلك يزداد حجم كرش المصريين. وبسبب عشق المصريين للجلوس أمام أجهزة التليفزيون بات هذا الشهر الكريم- في كل شيء- شهراً للتنافس بين شركات الإنتاج الفني من مسلسلات وأفلام.. ومن كل لون يا باتستة.. فاكرين قماش الباتستة الذي أدخله محمد علي إلي مصر وكانت أول مصانعه في الخرنفش عام 1816 لإنتاج البافتة والموسلين والبصمة والشاش والباتستة! وأنشأ لها المبيضة لتبييض هذه الأقمشة في بولاق! المهم بدأ الصراع مبكراً علي سحب عيون المصريين إلي هذه المسلسلات.. وإذا كان العمالقة الكبار قد قرروا الاستراحة في رمضان هذا العام مثل العبقري يحيي الفخراني والحوت المدهش محمود عبدالعزيز والمبدع نور الشريف شفاه الله وعافاه، ولم يبق من هؤلاء العمالقة علي ساحة المسلسلات إلا العملاق ذائع الصيت رائع الكريزما عادل إمام. وبذلك بدأ نجوم الصف الثاني، في السعي للقفز إلي الصفوف الأولية.. وأخذت القنوات التليفزيونية تتسابق في «الاستحواز» علي أفضل هذه المسلسلات، فمنها من قرر احتكار بعضها «حصرياً» ومنها من قنع لقطعة من التورتة.. ولكن الكل علي السواء بدأ في إذاعة أجزاء من هذه الأعمال لتحققوا أكثر من هدف، أوله سحب عيون المشاهدين، وسحب عيون المعلنين، إذ حسب عدد المشاهدين ينجذب رجال الأعمال إلي هذه القنوات ليحجزوا مساحات إعلاناتهم، وبالذات في فترة الذروة حتي اننا- في المواسم الماضية- وجدنا فترة الإعلانات التي تفرض علينا أكبر من فترة إذاعة فقرات المسلسل.. وكأننا أصبحنا نشاهد مسلسلات إعلانية.. قبل أن ننعم بمشاهدة المسلسل الدرامي نفسه! أي ان الحرب- من أجل الحصول علي كيكة الإعلانات- بدأت بالفعل.. حتي اننا نقول ان رمضان أصبح شهراً للإعلانات.. تتخللها فقرات من المسلسلات الدرامية، أي أصبح رمضان شهراً للإعلانات.. ومن لا يحصل علي حصة محترمة منها.. يخسر الجلد والسقط.. وأصبحت شركات الإعلانات من أكبر شركات المال والأعمال في مصر، وطبعاً في أوروبا وأمريكا! ومع هذه «الصرعة» نجد شركات- وجمعيات- تعمل في مجال دراسات عدد المشاهدين.. فتنشر أرقاماً ونتائج تروج لهذه الشركة أو لهذه القناة بالذات. ورحم الله الصيام.. وحلال عليهم أرباح الإعلانات وأرباح مستوردي مستلزمات شهر الطعام، حتي ولو كانت مجرد شوية لب وحمص.. أو زبيب وقراصيا!
