«هنا ميتين وهناك ميتين» جملة قالها لى شاب بدا لى وكأنه فى الستين من عمره، شعره دب فيه اللون الأبيض، وجهه معروق، جسده نحيل، يعمل سائقاً على شاحنة، وكان ضمن أحد من نجوا وعادوا من ليبيا مؤخراً، بعد أن سلب منه المسلحون الإرهابيون هناك الشاحنة وما عليها من بضائع، وعاد ب «خفى حنين» والحمد لله أنه عاد «قلتها له»، ولكن يبدو أنه لم يكن يشعر بنعمة العودة سالماً وبقاؤه على قيد الحياة، لأنه ينوى أن يعود مرة أخرى لليبيا، هذه المرة ليس بشاحنة وبضائع، ولكن للبحث عن عمل، أى عمل! لم يفلح جدالى معه وأنا أحاول إقناعه بأن هناك لا يوجد إلا الموت الآن، فى ظل غياب الأمن وتمدد العصابات المسلحة الإرهابية المتوحشة زوراً وكذباً باسم الدين الإسلامى، وذكرت أمامه إن كان لم يقرأ الفظائع التى يتعرض لها المصريون هناك، ولا أقول الأقباط فقط، لكن المصريين بصفة عامة، من قتل وخطف وترهيب، لكنه قال: «الواحد يموت برصاصة أحسن ما يموت من الجوع والفشل، واحد زيى وفى سنى يعيش منين، أنا سواق ومش لاقى هنا لا شغله ولا مشغله، أبويا مات من سنين وفى رقبتى أختين عايزين يتجوزوا وأم غلبانة كل اللى معاها أنها تدعى لى بالرزق اللى مش عايز يجى، أقعد جنبهم عاجز ألطم زى الولايا، ولا أروح فى داهية أدور على شغلانة أهو الواحد يموت هناك أحسن ويرتاح، هو أنا أحسن من الشباب اللى بيغرقوا فى البحر عشان يسافروا أوروبا». كلامه ليس غريباً على تماماً، إنها لغة ومنطق كل شاب أو رجل عاطل منذ سنوات، وعجز عن إيجاد «خرم إبرة» يعمل فيه على أرض الوطن لكسب العيش الحلال، لقمة تسد الأفواه الجوعى، وهدمة تستر العرى، هؤلاء الذين يفضلون السفر إلى المجهول، إلى الموت فى دول تضج بالإرهاب والأحداث الساخنة كالعراق وليبيا وسوريا، وكل همهم توفير «اللقمة» للأبدان المعلقة فى رقابهم، حتى لو كانت اللقمة ملعونة مغموسة بدمائهم، أو ثمنها حياتهم. حقيقة لا أعلم الآن إن كان صاحبنا قد سافر بالفعل إلى ليبيا، أو لعله وجد طريقاً آخر للسفر إلى أي دولة أخرى تضج بالجهاديين الإرهابيين للانضمام إلى صفوفهم وكسب لقمة عيشة من دماء إخوته، حتى يأتى عليه الدور ويسيل دمه، ولا أعلم أيضاً إلى متى سيكون الدم المصرى رخيصاً وهيناً على حكوماتنا، قامت ثورتان، وتغيرت عدة حكومات، والوضع لم يتغير، المصريون يفرون إلى الخارج قفزاً فى الظلام، يخطون خطوات غير محسوبة أملاً فى العثور على عمل للحصول على لقمة عيش ومستقبل أفضل، لا يهمهم أى بلد سيقصدون، المهم أن يخرجوا خارج حدود الوطن الذى لم يستوعب شهاداتهم، ولم يحتضن أحلامهم، ولم يوفر لهم أى فرصة عمل فى أى مكان على أرضها، على الرغم من أصحاب رؤوس الأموال والمستثمرين من أبناء مصر ما أكثرهم، والمليارديرات فى بلدنا «ما شاء الله» تنتشر قصورهم ومشروعاتهم فى الخارج، ولكن للأسف المشروعات التنموية التى يقدمونها لمصر ما أندرها، والمشروعات الصغيرة التى يمكن من خلالها تشغيل الشباب تكاد تنعدم تقريباً وليست فى بؤرة اهتمامهم، رغم أن المشروعات الصغيرة هى جوهر وقلب أى بلد نام يسعى إلى التقدم والتنمية. ولنا فى الصين نظرة، تلك الدولة التى تضم بين حدودها أكثر من 1.338 مليار نسمة، التى تعد الآن دولة من أسرع اقتصادات العالم نمواً، وأكبر دولة مصدرة في العالم، واقتصادها ثاني أكبر اقتصاد في العالم، ودخل الفرد فى المتوسط يزيد علي 17 ألف دولار فى الشهر، وكل هذا النجاح مع هذا التعداد انبثق من المشروعات الصغيرة بالدرجة الأولى، فكل أسرة صينية هى أسرة منتجة، ولنا أن نتأمل أسواقنا المصرية، التى تضج بالمنتجات الصينية بدءاً من الإبرة إلى الصاروخ كما يقولون، ورجالات المال والأعمال هناك يركزون على المشروعات التنموية الوطنية التى تستوعب أكبر عدد من العمالة، ولولا هذا لكانت الصين قد انفجرت بسكانها، ولخرج أبناؤها إلى العالم يأكلون منه الأخضر واليابس، فأين رؤوس أموالنا المصرية من هذا كله. أطالب بيقظة وطنية من رجالات المال والأعمال فى مصر الجديدة، أن يقدموا لمصر مقابل وطنى لما حققوه من خير وثروات على أرضها، أطالبهم بسرعة إقامة مشروعات تنموية ومشروعات صغيرة وورش تحتضن طموحات وطاقة أبنائنا، الدم المصر يجب أن يكون غالياً، انظروا إلى باقى دول العالم التى تهتز حكوماتها إذا ما أهدر دماء أحد مواطنيها، فلماذا الدم المصرى رخيص، وأطالب أيضاً بحظر السفر إلى ليبيا، وإلى كل الدول الساخنة بالإرهاب والصراعات، حقناً لدماء المصرين، وحماية لشبابنا من الاستقطاب فى التنظيمات الإرهابية، ففاقد الأمل من أبنائنا فريسة سهلة لهذه التنظيمات. هامش: نداء أوجهه إلى مصلحة الجمارك، الضرائب، إلى كل المسئولين المعنيين، ارحموا المصريين العائدين من ليبيا بسياراتهم، هؤلاء الذين لا يمكنهم العودة إلى هناك بالسيارات نظراً للأوضاع البشعة التى نعرفها وتهدد حياتهم، كما لا يمكنهم أيضاً دفع رسوم «تربتك» التراكمية على سياراتهم بعد أن مضى عليها أكثر من 14 يوماً، هؤلاء تراكمت عليهم رسوم بقاء سياراتهم بمصر، بعضهم وصلت الرسوم إلى 35 ألف جنيه، ولم يعد أمامهم سوى خيارين، إما أن يعودوا بسياراتهم للموت فى ليبيا، أو أن يلقوا سياراتهم فى البحر أو يشعلوا بها النيران للتخلص من عداد الغرامات المطالبين بها، أطالب بإجراء وقرار استثنائى لإعفاء سيارات العائدين من ليبيا، على الأقل بضعة أشهر حتى تهدأ الأوضاع هناك، لا يمكننا أن ندفع بهم للموت أو الخراب، كفى ما لاقوه هناك من ويلات، إنه نداء إنسانى، يتطلب تدخل إنسانياً عاجلاً وقراراً استثنائياً من الرئيس عبدالفتاح السيسى رفقاً بهؤلاء المواطنين.