انتهت جولة مفاوضات برنامج إيران النووي في فيينا يوم الاثنين الماضي، بما يمكن وصفه نظرياً ب"نصف اتفاق"، لكنه في واقع الأمر اتفاق المجتمع الدولي على أن "إيران أصبحت دولة نووية"، والباقي كله تفاصيل تخص تهيئة الظروف الداخلية لدى الأطراف المعنية لتقبل هذه الحقيقة من ناحية، والانخراط في تفاصيل التوافقات السياسية بين إيران والغرب بخصوص حدود الدور الإيراني الإقليمي وضوابطه، وما يجب أن تدفعه إيران من أثمان نظير ما سوف تحصل عليه من مكاسب . محمد جواد ظريف وزير خارجية إيران قدم ما يمكن اعتباره كشف حساب عن تلك المفاوضات التي بدأت يوم 18 نوفمبر/ تشرين الثاني الفائت وامتدت إلى يوم 24 من الشهر ذاته . فقد أوضح في مؤتمر صحفي أنه "كانت هناك عشر مراحل من الجلسات والاجتماعات المتعددة بشأن ملف إيران النووي، وكانت هناك أفكار طرحت"، لافتاً إلى "أننا نحتاج إلى عمل إضافي، وكنا نفضل أن ننتهي في فيينا، لكن أهم ما جاء على لسان ظريف كان تأكيده أن "أهم نتيجة وصلنا إليها هي أن البرنامج النووي (الإيراني) سوف يستمر في صورة كاملة وشاملة"، مؤكداً أن "مشروع إخافة العالم من إيران قد فشل"، ومعتبراً أن "الشعب الإيراني قاوم كل الضغوط من أجل الحصول على حقوقه" . وجاءت تعليقات الرئيس الإيراني حسن روحاني على هذه المفاوضات وما انتهت إليه من نتائج ليعزز ما ورد على لسان وزير خارجيته، فقد كشف روحاني عن أن المفاوضات التي جرت على مدى ستة أيام "أتاحت تسوية أغلبية الخلافات، والثقة بأنها ستؤدي إلى اتفاق نهائي، وأن الخلاف مع الآخر هو حول كيفية تحويل التفاهمات إلى اتفاق مكتوب" . هذا هو بالتحديد ما تحقق في فيينا: تحققت تفاهمات، وهذا هو المهم، وما تبقى هو تحويل هذه التفاهمات إلى "اتفاق مكتوب شامل"، كما ورد على لسان روحاني الذي كان شديد الحرص على أن يخاطب شعبه وفي مقدمتهم المعارضة المحافظة بالإطار العام لتلك الجولة من المفاوضات التي أخذت بخيار الحل الوسط، وهو تمديد المفاوضات سبعة أشهر كاملة، وبالتحديد حتى نهاية يونيو/ حزيران 2015 . فقد خاطب روحاني الإيرانيين بقوله: "كان لدينا هدفان مهمان: عدم التخلي عن برنامجنا النووي، والعمل على رفع العقوبات"، وفي إشارة مهمة إلى مصداقية التزام إيران بالهدفين قال إنه "طوال هذا الوقت، استمرت أجهزة الطرد المركزي في العمل"، ووعد الأمة الإيرانية بأن هذه الأجهزة "لن تتوقف عن العمل" . ربما لا تقدم هذه الإفادات الإيرانية ما يكفي لتأكيد الاستنتاج الذي تحدثنا عنه كمحصلة لجولة مفاوضات فيينا الأخيرة، لكن ما جاء على لسان جون كيري وزير الخارجية الأمريكي يكشف الحقائق كما هي . فقد أشاد كيري بما اعتبره "نجاح كبير" حققته عملية التفاوض من أجل الوصول إلى حل دبلوماسي لقضية الملف النووي الإيراني، موضحاً أن العالم اليوم أكثر اطمئناناً عما كان عليه من قبل فيما يخص هذه القضية، ومبرراً عدم توقيعهم اتفاقاً خلال المهلة المحددة في فيينا بأنهم "في حاجة إلى مزيد من الوقت لمزيد من العمل"، نظراً لأنهم "ليسوا بصدد توقيع أي اتفاق، وإنما اتفاق صحيح وعميق وقوي" . لم يكتف كيري بذلك، ولكنه حرص على أن يدافع عن قرار تمديد المفاوضات حتى صيف ،2015 وأن يرحب بما وصفه ب"التقدم الحقيقي والمهم" الذي تم إحرازه في فيينا، وحض المجتمع الدولي والكونغرس الأمريكي على دعم قرار تمديد المفاوضات، موضحاً أن "ليس هذا وقت التراجع الآن" . موقف البيت الأبيض الأمريكي لم يختلف كثيراً عن نظرة وزير الخارجية كيري وتقديره للنجاح الذي تحقق في فيينا وضرورة متابعته . فقد أدلى جوش إيرنست المتحدث باسم البيت الأبيض بإفادة صحفية قال فيها إن الرئيس باراك أوباما يرى أن "عدم التوصل إلى اتفاق أفضل من التوصل إلى اتفاق سيئ، لكننا نعتقد أنه تحقق تقدم كاف يبرر إتاحة مزيد من الوقت للنظام الإيراني للرد على مخاوف المجتمع الدولي بشأن برنامجه النووي ووضع بروتوكول للاستمرار في طمأنة المجتمع الدولي على الالتزام بهذه الاتفاقيات" . من المهم هنا أن نشير إلى أن عبارة "عدم التوصل إلى اتفاق أفضل من التوصل إلى اتفاق سيئ" هي تعليق بنيامين نتنياهو رئيس الحكومة "الإسرائيلية" على النتيجة التي انتهت إليها جولة مفاوضات فيينا، ما يعني أن الموقف "الإسرائيلي" كان في عقل وضمير الرئيس الأمريكي وفي عمق حساباته، لكنه يكشف أيضاً ما هو أهم، وهو أن الأشهر المقبلة ستكون معنية بتهيئة الفرص اللازمة لنجاح الإعلان عن اتفاق نهائي بخصوص برنامج إيران النووي، سواء داخل الكونغرس أو الشركاء الإقليميين، وعلى الأخص "إسرائيل" . ربما يكون إدراك أطراف مفاوضات فيينا (إيران ودول مجموعة "5+1") لوجود تحديات إقليمية حقيقية لإعلان اتفاق نووي نهائي وشامل لأزمة البرنامج النووي الإيراني، هو ما دفع الأطراف إلى التكتم على مضمون ما تحقق، أملاً في طمأنة الحلفاء الإقليميين وسعي الإدارة الأمريكية إلى التوافق السلمي مع كونغرس بأغلبية جمهورية على هذا الاتفاق، لكن هناك احتمال آخر، إذ إن تمديد المفاوضات يتعلق بإدراك إيران والولايات المتحدة أنهما في حاجة إلى مزيد من إنضاج الظروف المحيطة المفعمة بالأزمات الملتهبة، خاصة في العراق وسوريا واليمن، فضلاً عن لبنان . لكن أياً كانت الحسابات، فالأمر المهم الذي كشفته جولة مفاوضات مسقط ومن بعدها جولة مفاوضات فيينا هو ذلك التناغم والانسجام الواضح بين شخص وزير الخارجية الأمريكي كيري ونظيره الإيراني ظريف، وهو تناغم يكشف عن تقارب أمريكي إيراني، وقناعة أمريكية بضرورة التعامل مع إيران من منظور "الشراكة" وليس من منظور "العداوة" انطلاقاً من إدراك أمريكي استراتيجي بأن الدور الإيراني في الأزمات الإقليمية لم يعد من الممكن تجاهله، وعليه ستكون الأشهر المقبلة من الآن وحتى منتصف العام المقبل مخصصة لتعميم هذا الإدراك الأمريكي على الحلفاء الإقليميين لواشنطن، وبعدها يأتي التوقيع على الاتفاق النووي الشامل . نقلا عن صحيفة الخليج