ومن النصوص التي تحتاج كذلك إلي مراجعة عاجلة دعت إليها الأشكال الحديثة للجريمة نص المادة 240 الخاص بجناية الضرب المفضي إلي عاهة مستديمة، فتغير شكل الجريمة والذي أدي في الواقع إلي أساليب قد تؤدي فعلياً إلي موت مدني للمجني عليه بحيث قد يتم تشويهه بالكامل أو إصابته بشلل كامل في كافة أجزاء جسده.. فيصبح مجرد جثة هامدة تتمني الموت لما يكابده من آلام جسدية ونفسية فإن هذه الصور وغيرها لا تفرق عن حالات الموت الفعلي في جناية القتل العمد التي يعاقب المشرع عليها في المادة 230 بالإعدام متي كانت مقترنة بسبق الاصرار أو الترصد أو بالسجن المؤبد في المادة 234 متي تجردت عن هذين الظرفين وهو ما يقتضي تدخلاً من المشرع، إذ إن العدالة تتأذي من بعض الصور البشعة لجرائم الاعتداء والضرب والتي وان لم يقتل فيها المجني عليه وتزهق روحه إلا انها في الواقع تتركه في موت مدني جثة هامدة ليس بها سوي أنفاس صاعدة وهابطة والتي تتحقق معها ذات علة.. القتل العمد. ولا يتصور في أقران هذه الصور البشعة أن تكون أقصي العقوبة فيها وفقاً للمادة 240/1 من قانون العقوبات خمس سنوات إذا كان الضرب بغير سبق اصرار أو ترصد. فأمثال هذه الحالات والتي لم تكن معهودة أو معروفة حينما صدر هذا النص في عام 1937 تقتضي تدخلاً حاسماً بتشديد العقوبة تشديداً يتواءم مع بشاعة الجرم وخطورة المجرم ويتحقق معه فلسفة العقوبة.. والغاية المنطقية فيها.. وهي الزجر والردع. ومن بين النصوص التي تعكس حالة غياب الوعي التشريعي أو الصمت التشريعي في مواجهة حالات أفرزها تغير الواقع والمجتمع نص المادة 292 من قانون العقوبات والذي يعاقب بالحبس الذي لا يتجاوز سنة أو بالغرامة التي لا تزيد علي خمسمائة جنيه أي من الوالدين أو الجدين لم يسلم ولده أو ولد ولده إلي من له حق في ذلك أو قام بخطفه بنفسه أو بواسطة غيره. وهذا النص ينفصل تماماً عن الواقع والذي يشير إلي مشكلة حقيقية بالغة الخطورة تتعلق بحق الرؤية وتنفيذ الأحكام الصادرة بهذا الحق بين الطليقين. وقد يذهل البعض حين يعلم أن مشكلة حق رؤية الصغير المحضون مشكلة قائمة لدي حوالي ثلاثة ملايين أسرة علي أقل التقديرات. ووجه الخطورة في هذه المشكلة هو عدم تنفيذ أو عرقلة تنفيذ حق الرؤية من جانب الطرف الحاضن للطفل وللأسف الشديد أن قانون الأحوال الشخصية في المادة 20 الصادرة بالمرسوم 25 لسنة 1929 لا ترتب جزاء رادعاً لمواجهة هذه الحالات. ولذلك فإن نص المادة 292 عقوبات ينبغي عليه في ضوء هذا الواقع المرير أن يعاد النظر إليه إذ لا يتصور أن الطرف غير الحاضن والذي يفشل في رؤية ولده سواء بالتراضي أو بحكم القضاء أن يجد نفسه متهماً بخطف ولده أو أن يجد الجد نفسه متهماً بخطف حفيده. وهذا النص يثير مسألة في غاية الأهمية تتعلق بالنصوص العقابية المرتبطة ارتباطاً لا يقبل التجزئة بمشكلات أخري تنظمها قوانين مستقلة، إذ ينبغي أن تكون نظرة المشرع العقابي مستلهمة لواقع هذه المشكلات وحجمها الحقيقي وأبعادها. ولو استلهم المشرع العقابي الواقع في مشكلة حق الرؤية وأنصف في إحداث الموازنة التشريعية لكان من الواجب أن يضاف إلي نص المادة 292 فقرة تعاقب بذات العقوبة الحاضن الذي يمتنع أو يعرقل تنفيذ حق الرؤية ويحول بين صاحب الحق في الرؤية وبين هذا الحق بأي شكل من الأشكال. وقد زاد الإلحاح في مراجعة هذه المادة بعد أن كشف رأي مجمع البحوث الإسلامية الأخير في مشروع تعديل قانون الأحوال الشخصية عن رأي الشرع والذي يرفض حبس الأب عن خطف ولده، فإذا كان الشرع لا يجيز قتل الوالد في ولده فهو من باب أولي يحول دون معاقبته إذا ما حاول خطفه. خاصة وأن من فقهاء القانون من يري أن معني الخطف لغة وقانوناً يستحيل أن يتحقق لدي الأب أو الجد، إذ إن الخطف يلزم قانوناً أبعاد المخطوف عن ذويه وهو ما لا يمكن تصوره واقعاً أو منطقاً.. إذ الأب أو الجد من ذويه. ومما يعكس أخيراً حالة الجمود التشريعي والسلبية التشريعية أن المحكمة الدستورية العليا قد أفصحت في أكثر من حكم عن عدم دستورية النصوص الجنائية التي تقوم علي افتراض مسئولية المتهم أو تفترض العلم لديه أو تقيم المسئولية الجنائية عن فعل الغير كما هو الحال في المادة 195 عقوبات التي كانت تفترض مسئولية رئيس التحرير أو المادة الثانية من قانون الغش التي كانت تفترض العلم بالغش.. وتفترض مسئولية صاحب المحل أو مديره المسئول. ورغم وضوح رؤية المحكمة الدستورية العليا في هذا الشأن فقد كان ذلك يقتضي أن ينهض المشرع بمراجعة شاملة ينقي خلالها المدونات العقابية من النصوص المثيلة المشوبة بعوار عدم الدستورية، ومنها المادة الثانية من قانون الكسب غير المشروع والتي تناقض أصل البراءة المكفول في الدستور وتقلب عبء الإثبات، خاصة وقد كشفت محكمة النقض عن هذا الوجه من العوار في حكم شهير لها انتهي بالنقض والبراءة.. وقد تأسس- في سابقة قضائية- علي أن المادة الثانية من قانون الكسب يناقض صريح نص المادة 67 من الدستور والتي تكفل أصل البراءة.. بما تفرضه من أن عبء إثبات الاتهام يقع علي عاتق من يدعيه.. ولا يجوز قلب هذا العبء بحيث يفترض أن كل زيادة في ثروة الموظف العام.. قرينة علي انها كسب غير مشروع وعليه عبء نفي ذلك.. وانتهت إلي أن تلك المادة.. باتت منسوخة بقوة المادة 67 من الدستور. وعلي وجه الخصوص أن مصر لا تعرف نظام الدعوي الدستورية المبتدئة، مما كان يقتضي لزوماً من المشرع أن ينهض لأداء دوره في تنقية التشريعات العقابية القائمة علي ذات العيب الدستوري أما وانه لم يقم بذلك فإن ذلك يعكس حالة اللامبالاة أو السلبية التشريعية التي نعيشها، فحيث تكون الإيجابية والسرعة مطلوبة لا نجد المشرع يتحرك، وحيث يكون التأني والتروي مطلوبين نجده يسارع الخطي فينفعل ويشرع. (وللحديث بقية) سكرتير عام حزب الوفد