ليس إلا الصراع الانتخابي البرلماني المقبل، محوراً للعديد من المساومات والمزايدات التي باتت تغلف المشهد الداخلي، وتنحاز له مجمل التفاعلات الحادثة فيما بين الأنظمة المتصارعة علي «مكتسبات الثورة»، بعد أن فشلت القوى الثورية الحقيقية في استخلاص مفهوم الثورة من جملة المفاهيم البالية التي حكمت الحياة السياسية في مصر علي مدى عدة عقود، حتى مثل حكم الإخوان استمراراً لها علي نحو ينفي انتسابهم للثورة، قدر ما أكد علي ما باتت عليه الديمقراطية من «غربة» في المجتمع المصري، فكانت ثورة الثلاثين من يونية ليسترد الوطن بها آماله في مستقبل أفضل. والواقع أن برلماناً، يتمتع بالكثير من الصلاحيات والاختصاصات، المسحوبة من رئيس الجمهورية، رغم مركزية الأخير في العقيدة السياسية الوطنية، لم يكن لائقاً أبداً أن يخضع، كبرلمان ثوري، للمساومة والشد والجذب ما بين القوى الثورية، أمناء الثورة، وغيرهم من أعدائها، ممن فقدوا عروشهم السياسية والاقتصادية جراء اندلاع فعاليات الثورة، في يناير ويونية علي التوالي. غير أن تراخياً قد وقع بالفعل، وربما الصراع غير محسوب النتائج، قد شب بين أطراف القوى الثورية، علي نحو تراجعت معه المصلحة العامة التي جمعت بين مختلف مكونات المشهد الثوري، في مواجهة تنظيم موجود بالفعل، يجمع بين أعداء الثورة المصرية، بشقيها في يناير ويونية، وهو تنظيم تقوده المصالح، ويرتكز علي قواعد قوية داخل البنيان الاجتماعي، وفق ما نملكه من ثقافة موروثة. فإذا كانت ممارسات الإخوان الإرهابية قد كشفت «المستور» عن مزاعم تصل الدين بالسياسة، وفق المفهوم الإخواني، فقد بقيت لدينا مجموعة من المفاهيم المغلوطة، لعل أوثقها بالعملية الانتخابية مفاهيم العزوة والقبلية، وهي مفاهيم ترتبط كثيراً بالترويج لقيمة المال مرادفاً للقوة والسطوة، بعد أن عاش المجتمع طويلاً يلتمس «وسيطاً» بينه وبين النظام الحكم ومكوناته التنفيذية؛ ومن ثم كان لجوء الناخب إلي النائب القوى، بماله وعزوته، بصفته «الأقدر» علي جلب «المنفعة» من براثن الحكومة، وتنفيذ طلبات الناس وحل مشكلاتهم. غير أن إدراكاً مغايراً للواقع الجديد الذي أفرزته الثورة المصرية، والذي ينعقد فيما أحدثته، أو يفترض أن تكون قد أحدثته، في القيم المجتمعية السائدة، كان ينبغي الدفع به إلي الأمام في محاولة جادة لتغيير المعايير الحاكمة لخيارات الناخبين أمام صناديق الاقتراع، وهو ما كان يتطلب جهداً أفضل، واهتماماً أبرز فيما يصدر عن القوى الثورية من خطاب سياسي ينزع من أعداء الثورة أسباب ومبررات احتلالهم مقاعد البرلمان دون سند من كفاءة حقيقية. فليس في الدستور الجديد، الذي حظي بموافقة شعبية كاسحة، ما يفيد منطقية بقاء «نائب الخدمات» في موقعه المتقدم علي رأس قوائم المرشحين، خاصة في ظل محليات تنهض بمسئولياتها الوطنية الحقيقية، وتصعد بآمال وآلام الناس إلي الدوائر الأعلى في الهرم السلطوي، فحقيقة الأمر أن المجالس المحلية باتت هي الأجدر بعضوية «نائب الخدمات»، وهي مهمة ثقيلة، لا ينبغي التقليل من شأنها مقارنة بنائب البرلمان، فهي المحك الأحق بقياس مدى ما وصلت إليه تجربتنا الديمقراطية الوليدة. وعليه، فقواعد جديدة ينبغي أن تحكم اختيارات الناخبين في الانتخابات البرلمانية المقبلة، قواعد تستند إلي روح الثورة، وتستجيب لما سعت إليه الثورة من إحداث تغيرات جذرية في القيم المجتمعية السائدة، والتي بموجبها تختفي الكثير من الظواهر المجتمعية السلبية، وفي الصدارة منها «نائب الخدمات»، ذلك «الرجل» الساعي بين الصفوف الأولي لمقاعد البرلمان، في تودد مهين للوزراء، وهو المنوط به مراقبة أدائهم ومساءلتهم ومحاسبتهم!، فإذا به يستجدي منهم بقاءً أطول داخل البرلمان بحكم ما يقدمونه له من دعم «بتخليص» مصالح أبناء دائرته من أنياب الجهاز الإداري للدولة. من هنا فليس أقوى من البرلمان المقبل، دلالة قاطعة علي مقدار ما قطعناه علي طريق التحول الديمقراطي، وهو أمر علي صلة وثيقة بمدى اتساق خطوتنا في الاتجاه الصحيح؛ فليس إلا بأبناء الثورة، يجسد البرلمان المقبل دوره الدستوري الوطني؛ إذ كيف لأعداء الثورة، أتباع مبارك وبديع علي السواء، تجسيد مبادئ الدستور الذي اتخذ من الثورة المصرية التي أسقطتهم، عنواناً له، وجوهراً لقيمه ومبادئه!.