انطلاقاً من الدرس الأخير للثورة المصرية، لا يسع الرئيس المقبل إلا أن يكون رئيساً لكل المصريين، علي اختلاف انتماءاتهم، وتباين منابعهم الفكرية، وتنوع تياراتهم واتجاهاتهم، فليس بالإمكان اختزال الوطن فيمن أيد أو ساند الرئيس المقبل. ولا يدفعنا نحو تحقيق طموحات الثورة المصرية كل فكر يتأسس وفق مصالح لا تتبني قناعات حقيقية مفادها كون الشعب المصري يمتلك من القواسم المشتركة ما يفوق كل التناقضات المنتشرة علي اتساع رقعة الساحة الوطنية، وتنوع ألوانها. في هذا السياق ينبغي أن يعبر البرلمان المقبل عن كونه بالفعل برلمان الثورة، فتكتلات لا تلبي متطلبات النهضة التنموية الشاملة القادرة علي تجسيد الآمال والأحلام المشروعة للشعب المصري، لن تخفي علي الناخب صاحب الثورة الحقيقي. ومساحة لمصالح تعلو فوق الاعتبارات الوطنية، لا يجوز السماح بها في البرلمان المقبل، وإن أتاحت خبرة أصحابها صيغاً تداعب مشاعر الناس بغية الترويج لسياسات وممارسات ما نهضت الثورة إلا للتخلص منها. فليس من شك أن المخاطر التي يواجهها الأمن القومي المصري باتت تحد كثيراً من خياراتنا أمام محاولات الاستقطاب المجتمعي، خاصة أن الانتخابات البرلمانية المقبلة ستشهد تصاعداً في ذات الاتجاه، وهو أمر من شأنه أن تبدأ المؤسسات الدستورية للدولة نشاطها، متى اكتملت، وسط حالة من الانقسامات العنيفة، قد لا تتيح قدراً مناسباً من الرؤى الموضوعية، نضمن بها تحركاً واعياً صوب إنجاز ما ينتظره الشعب من آمال عريضة، تبدو في ظلها الثورة المصرية وقد اتخذت موقعها الصحيح. فرغم ما تثيره حيوية العملية السياسية في المجتمع من روح ديمقراطية، هي بالقطع جوهر الثورة المصرية، إلا أن ذلك لا ينبغي أن يمثل حائلاً بيننا وبين استنهاض كافة القوى الوطنية، لأداء دورها الوطني في تلك المرحلة الدقيقة من عمر الوطن. لا يتنافي ذلك مع إصرار الوفد علي ضرورة إقصاء رموز نظام مبارك الفاسد عن المشهد السياسي، بل إن مراجعة واجبة مع النفس، تتيحها المسئولية الوطنية في أبسط صورها، ينبغي أن تدفع هؤلاء إلي مبادرة من جانبهم يتخذون بموجبها «خطوة إلي الخلف»، يتيحون بها الفرصة أمام الثورة لإنفاذ الإرادة الشعبية التي نادت بتغيير حقيقي لا يمكن اللحاق به في ظل تواجدهم في المشهد السياسي، وربما كان في ذلك دعماً لإمكانية استعادة دورهم السياسي في مرحلة مقبلة، وفق مفاهيم جديدة تؤكد قدرتهم علي تبني قيم الثورة المصرية. كذلك الأمر بالنسبة لأنصار جماعة الإخوان التي لم تنجح في الإبقاء علي مشتركات وطنية حقيقية، ما كان ينبغي التفريط فيها، مهما تنامي لديهم الشعور بالعداء تجاه ما آلت إليه الأمور بعد حكم لم يدم لهم أكثر من عام؛ فليست محل شك، تلك الإرادة الشعبية الجارفة التي عبرت عنها الملايين الثائرة في الثلاثين من يونيو، وليس علي سبيل «الأرض المحروقة» ينبغي أن تغيب قيادات الجماعة وقد تركت شبابها في مواجهة مؤلمة مع الأمة التي ينتمون إليها، وقد كانوا في الخامس والعشرين من يناير أحد المكونات الوطنية، مهما صغر حجمهم، التي واجهت نظام مبارك الفاسد المستبد، فإذا بقيادات الجماعة تستلهم، بصياغة دينية، ذات أدواته وآلياته في محاولة لاحتكار السلطة، وتأميم القضايا الوطنية لصالحها، وإقصاء كل وطني شريف، وهو أمر ما كان ينبغي أن تتوقع قيادات الجماعة تمريره في ظل بقاء الروح الثورية المُلهمة التي أبهرت العالم. فخطوة إلي الخلف من أعداء الثورة، هي بالقطع خطوة بناءة، يدفع إليها حرص كافة القوى الوطنية المخلصة علي نزاهة المنافسات التي تتيحها خارطة المستقبل، سواء الرئاسية أو البرلمانية، وعدم السماح لرموز نظام مبارك، وأتباع الجماعة الإرهابية، من النفاذ إلي المشهد السياسي، عبر ما تتيحه العملية السياسية من مساحات من مزايدات ومنافع حزبية قاصرة عن بلوغ المبادئ الثورية النبيلة التي نادت بها الثورة المصرية. خطوة إلي الخلف، تجمع نظام مبارك وأتباع بديع، يراجعون فيها أنفسهم، فيما يتاح للثورة المصرية إعمال مبادئها السامية، قد تهيئ لهم موقعاً في مرحلة مقبلة علي أسس جديدة ترتكز علي القواسم الوطنية المشتركة. هي إذن خطوة إلي الخلف نتقدم بها نحو مستقبل أفضل. «الوفد»