رغم نقل باعة وسط البلد والإسعاف الى منطقة الترجمان إلا أن بقية ميادين وكباري مصر المحروسة تحولت إلي أوكار في قبضة البلطجية ممن أستطاعوا فرض سطوتهم ونفوذهم جهاراً نهاراً علي الشوارع، وكأن الحكومة باعتها.. فالواقع يرصد انتشار ظاهرة الباعة الجائلين في مصر بشكل غير مسبوق ، بعدما وصلت أعدادهم إلي 7 ملايين بائع متجول بين السريحة وباعة الأرصفة (حسب الإحصائيات الرسمية)، ينتشرون في جميع أنحاء المحافظات إلي أن أصبحت الظاهرة الأكثر خطراً علي المجتمع المصرى. مشكلة الباعة الجائلين بخلاف تعطيلهم للمرور ولحركة المواصلات أن بضاعتهم التى يقومون ببيعها بالإكراه للمواطنين لا تخضع لأي رقابة علي أرصفة وطرقات الشوارع، ويحتمون بأصحاب السوابق الذين يتخذون من أراضي الدولة ملكية خاصة لهم ويعملون علي تأجيرها للباعة باليوم، وفي المقابل يتحكمون في أرزاقهم ، وفي حالة اعتراض أحد منهم علي دفع المعلوم وقتها تظهر الأسلحة بمختلف أنواعها ويتحول المشهد إلى حرب شوارع. فى الوقت الذى اكتفت فيه الحكومة فقط بالفرجة عليهم، وهو الأمر الذي يستوجب وقفة جادة من المسئولين بالدولة. «الوفد» رصدت فوضى الباعة الجائلين والبلطجة بالكلمة والصورة في ميادين وشوارع محافظتي القاهرة والقليوبية التي يدفع ثمنها المواطن البسيط محدود القدرة المالية من دمه وأعصابه ووقته وماله، بعدما شكل معظم الباعة مافيا عجز رجال الشرطة عن التصدي لها. البداية كانت في رمسيس الذي يعتبر أهم وأكبر ميادين القاهرة، ويزدحم بالعديد من الباعة، الذين يقفون بعشوائية شديدة، حتي تحول الميدان إلي سوق عشوائي كبير، يتسبب في أزمات مرورية يومية ويعرقل حركة السير في الشوارع .. والحكومة تركت لهم الحبل علي الغارب. رفض نهائى عسوي أبو إسماعيل ، شاب بالغ من العمر 20 عاماً، حاصل علي دبلوم صنايع، يفترش الرصيف بجانب مسجد الفتح بالأجهزة الكهربائية، يقول: هذا المكان ننتظر منه الزبائن المارين في الطريق أو المتجهين إلي محطات القطارات، وهو في منطقة حيوية، لذا عندما جاءنا مسئولو الحي لتسجيل اسمائنا، استعداداً لنقلنا إلي الموقع الجديد المخصص لباعة رمسيس والقللي والأزبكية والعتبة ، رفضنا نهائياً، لأن سوق الخميس بالمطرية التي تريد محافظة القاهرة نقلنا إليه لا يناسبنا ، بسبب قلة الحركة هناك، كما أنه يفقدنا الزبائن، ويحملنا أعباء إضافية عكس ميدان رمسيس، خاصة وأننا نعيش حياة صعبة من غلاء المعيشة وارتفاع الأسعار التي طالت كل شىء حولنا، لذا يجب أن تحرص الحكومة علي أقواتنا ، بما لا يؤثر علي أرزاقنا. ويوضح أسامة محمود صاحب محل عصائر بالميدان أن الوضع أصبح في ميدان رمسيس من أسوأ ما يكون، حيث يوجد سوق عشوائي كبير يمتلئ بالباعة ، لا يستطيع أحد أن يقترب منهم ، بعدما احتموا بالبلطجية، والحكومة فشلت فى السيطرة عليهم والشوارع بأكملها أغلقت ولا تستطيع سيارة أن تسير هناك بسهولة. انتقلنا من رمسيس إلي ميدان العتبة الذي يزدحم بباعة الملابس المستعملة والأدوات المنزلية ولعب الأطفال رخيصة الثمن، ناهيك عن المنتجات الغذائية التي لا تخضع للرقابة وغير موثوق في صلاحيتها للاستخدام. الوعود الحكومية « أي كلام».. هكذا بدأ فهد عطية حديثه وهو بائع يتخذ من رصيف ميدان العتبة محلاً تجارياً خاصاً به بالطريق العام مساحته 6 أمتار لبيع الملابس الجاهزة، قائلاً: نحن كرهنا كثرة الوعود التي نتلقاها من المحافظة التي ليست جديدة علينا، ونرفض القانون الذي حولنا لمجرمين في نظر الدولة ، فما نريده هو النظر إلينا كمواطنين يستحقون توفير فرص عمل مناسبة وحياة كريمة تليق بكرامة المواطن المصري، وتوافر أسواق بديلة في أماكن وجودنا بالميدان وليست بإنشاء «الباكيات» التي لا تتعدي متراً في متر ونصفها ب «الفاشلة». واستطرد : إننى أعول أسرة مكونة من خمسة أفراد منهم « 3 أطفال رضع « ووالداتي مريضة السكر والضغط .. ولا يوجد لدي عمل آخر ، ومن هنا لا يمكنني ترك المكان الموجود في ميدان العتبة مصدر رزقي الوحيد ، والذهاب لمكان آخر لا أعلم عنه شيئاً . أما أنور الدكر ، 43 عاماً ، بائع أحذية وشنط ، فيقول : لسنا بلطجية أو حرامية .. لكننا سنضحي بأنفسنا في مقابل المحافظة علي أرزاقنا.. إننى متزوج وأعول أسرة مكونة من 3 شباب متزوجين ، ولديهم 8 أطفال ، يتناوبون العمل معي علي الفرش ، لتوفير قوت يومهم ، بالإضافة إلي إيجار المنزل مبلغ 1100 جنيه شهرياً، بخلاف فواتير الكهرباء والمياه ونفقات المعيشة الباهظة. ويشير إلي أن زبائننا من البسطاء وهم يأتون إلي بضاعتنا الذين يرونها مناسبة ، بعدما اضطرتهم الضغوط المعيشية التي تزايدت بشدة علي المواطنين ، من غلاء المعيشة وارتفاع متوالٍ في أسعار المواد الغذائية ، بخلاف الدروس الخصوصية ، ويقابل ذلك انخفاض في الأجور والمرتبات. مشهد فوضوى ومن العتبة إلى المؤسسة بشبرا الخيمة، لا يختلف المشهد الفوضوي عما شاهدناه هناك، بل ازداد سوءاً، حيث تحول كوبرى المؤسسة الموصل إلى محطة القطار إلى وكر لأعمال البلطجة والعنف وإيذاء المواطنين، بخلاف الفوضي والعشوائية، فلا نجد متراً واحداً أعلي الكوبري، إلا وسيطر عليه البلطجية من أرباب السوابق والخارجين عن القانون، وقاموا بتأجيره للباعة بمبالغ متفق عليها بينهما ويتفاوت السعر حسب مكان البائع، لكنه يبدأ بمبلغ 50 جنيهاً شهرياً، ناهيك عن انتشار المنتجات مجهولة المصدر التي تعرض بطول النفق، الأمر الذي شوه منظر العاصمة وأدي إلي تضييق مساحات الطريق. إلهام فتوح أم ل « طفلين» ربة منزل تؤكد أن ما نراه بطول النفق ووصولاً إلى محطة المترو مشهد فوضوي لسوق عشوائى كبير، يسيطر عليه الباعة الجائلون المحميون بقوة البلطجية، وهذه المنطقة بمجرد مرورك تسمع أسوأ الألفاظ والشتائم، وسرعان ما تتطاير بعد ذلك الأسلحة البيضاء الذين يتباهون بها وسط المارة في عز النهار، كما أنهم يسحبون المارة عنوة .. ولا أمامهم سوي الشراء في هدوء خوفاً من التعرض للإيذاء ، مما يتسبب في حدوث خناقات دائمة بينهم وبين المارة ، ومن يقترب من أي بلطجي هناك يدفع الثمن غالياً من إهانة وبهدلة في ظل غياب الرقابة الأمنية. ويضيف أيمن علي الدين - أب ل « 3 أطفال» «موظف» هذه المنطقة تحولت إلى مأوى للبلطجية والخارجين عن القانون، وأصبحنا لا نأمن علي زوجاتنا ولا أولادنا من المرور هناك، بعدما أصبح البيع والشراء بالإكراه، وما عليك إلا الشراء بهدوء، حتي تضمن خروجك سليماً، وتتغاضي وقتها عن أي أموال ، والحكومة تعلم ذلك ، لكنها تظل بموقف المتفرج. نجيب جبرائيل، المحامي ورئيس الاتحاد المصري لحقوق الإنسان، يري أن ظاهرة الباعة الجائلين يمكنها أن تقضي علي الاقتصاد الرسمي ، بسبب انتشار البضائع مجهولة المصدر علي أرصفة الشوارع في كافة أنحاء العواصم، فهي حقاً مشكلة قديمة، نتاج سياسات الأنظمة السابقة ، وإنما لن تحلها الحملات الأمنية في أماكن تجمعهم ، بل تحتاج لحلول حديثة، من خلال إنشاء أسواق محددة ومعروفة للجميع في مواقع مختلفة، لكي تخضع للرقابة والمحاسبة من قبل الأجهزة الحكومية أمنياً وقانونياً ، أشبه بالدول الأوروبية، حتي يمكننا القضاء علي مظاهر الفوضي والعشوائية والبلطجة، لأن استمرارها يشوه الوجه الحضاري للعاصمة. واستطرد «جبرائيل».. قائلاً : عقوبة إشغال الشوارع والميادين جريمة يعاقب عليها القانون، تبدأ بالغرامة المالية وتنتهي بالحبس إلي عشر سنوات ، إذا كانت هذه الأشغال مصحوبة بأعمال إجرامية أو بإحدي هاتين العقوبتين ، وفقاً لأحكام القانون رقم 140 لسنة 1956 في شأن إشغال الطريق العام المعدلة بالقانون رقم 177 لسنة 1981. الدكتورة عزة كريم ، أستاذ علم الاجتماع بمركز البحوث الاجتماعية والجنائية، يدعو الحكومة الى تقنين أوضاع كل الباعة الجائلين وإيجاد أماكن محددة لهم ، بدلاً من وقوفهم في الشوارع والطرقات أمام المحلات وأعلي الكباري وممرات القطارات، حتي لا يتسببوا في إعاقة حركة المرور والاحتكاك بالمارة، وأن يكون هناك تنظيم لهؤلاء الباعة لمنع التكدس والاختناق، مع استمرار التواجد الأمني الذي يمنع حدوث أي مخالفات أو جرائم، الأمر هنا لا يحتمل التسيب أو التهاون مع هؤلاء الباعة، خاصة وأن البلاد تمر بمرحلة صعبة للغاية ، فالعبرة هنا تقاس بالإرادة السياسية الحقيقية لتطبيق القانون. وأضاف: إن الباعة الجائلين وفقاً لبعض الإحصائيات الرسمية 7 ملايين بائع، وأغلبهم يتحملون عبء إعالة عائلاتهم ويعملون كبائعين للمواد الغذائية والشاي ولعب الأطفال والملابس الحريمي والرجالي، وينظر إليهم المجتمع أحياناً باعتبارهم كياناً طفيلياً ينمو في الشوارع، ويتعاملون معهم باعتبارهم بلطجية يفرضون تواجدهم من منطلق القوي والبلطجة، دونما حق وبرغم ذلك فالمواطنون يقبلون علي شراء السلع منهم، حيث إن أسعار سلعهم غالباً ما تكون أرخص بكثير من أسعار المحلات، ونتيجة لشغلهم الأرصفة المجاورة لمحلاتهم ينتج عن ذلك سيطرة الباعة الجائلين الذين ينتشرون الآن في كافة محافظات مصر، وهو ما يسىء إلي المظهر الحضاري للمدن ويعيق الطرق ويساعد علي انتشار السلع الرديئة. صلاح العربي ، المنسق العام لحركة مواطنون ضد البطالة، يري أن الحل الأمثل لمواجهة ظاهرة الباعة الجائلين هو تواجد أسواق وبها محال يتم تخصيصها لهؤلاء الباعة الجائلين ، لأن الحل الأمني لا يفيد، فالبرغم من الحملات الأمنية والتنفيذية والغرامات، لم يتم القضاء علي هذه المشكلة أو الحد منها .. إنما تتزايد وتتفاقم يوماً بعد يوم بالتجاوز للقوانين .