بعيداً عن زخم الحياة وصراع بنى البشر فى دنيا المادة، يتجسد التاريخ المصرى حاضراً فى أعرق أحياء القاهرة الفاطمية، حيث الأرض وزوايا البيوت الحجرية، وحتى عبق التاريخ يخيم على المكان فى ثالث لوحة تاريخية توقفنا عندها للتأمل وتسجيل اللحظة. "زقاق المدق" هو لقطة من ألبوم القاهرة الفاطمية التى أسسها الحاكم بأمر الله منذ ألف عام مضت، متفرع من شارع الصنادقية القابع بين أزقة شارع المعز .. كل ركن بالزقاق شهد رواية قديمة لأبطال مضوا إلى طى النسيان، حتى الأماكن نفسها تغلفت بحكاياتها التى لفتت أنظار الوطن والعالم لأجمل القصص التاريخية على أرض المحروسة. ففى جولة داخل الزقاق، أول ما يجذبك المقهى الموجود فى بداية الزقاق، والذى لا يزال يحتفظ ببعض ملامحه القديمة، فقد تعشش عبق التاريخ بين معالمها، حتى الموائد نفسها صورة قديمة لأزمان مضت فضلا عن الأرضيات الرخامية والجدران التى تتوسطها صورة محفوظ إلى جانب الحاج على يوسف "صاحب المقهى الأول، حتى لتشعر بأن اللونين الأبيض والأسود لأفلام الستينيات قد غلفا كل أركان المقهى هناك. فقد اعتاد نجيب محفوظ أن يجلس على أحد مناضد المقهى هناك ليسطر رائعته من نبض الشارع، سطوره تلك التى استحق بها نيل جائزة نوبل للآداب كأول أديب مبدع للوطن العربى، حتى دب الخلاف بينه وبين صاحب المقهى عقب رواية "زقاق المدق" التى صور فيها محفوظ صاحب المقهى "المعلم كرشة" كمدمن وذا سلوك مشين يخجل منه أهل الزقاق بكامله، وتكرهه عائلته المكونة من أم وابنها، ليغادر نجيب المقهى ويستوطن مقهى الفيشاوى فى شارع الحسين. ومن هنا يروى "عبد الجليل عبده على" حفيد الحاج على يوسف صاحب المقهى الأول لقد كان نجيب محفوظ صديقاً لجدى رحمه الله، حتى أنه كان يفتخر فى كل مجالسه بصداقته لمحفوظ وبكونه أحد زبائن مقهاه وأهمهم، إلا أنه بعد عرض فيلم (زقاق المدق) غضب جدى غضباً شديداً من نجيب محفوظ بسبب الدور الذى جسده الفنان (محمد رضا) (المعلم كرشة)، صاحب القهوة الذى كان عميلاً للإنجليز ويتاجر فى المخدرات، لذا انقلبت الآية عند جدى وكره محفوظ ، وبعد أيام أتى (محفوظ) إلى المقهى كعادته، فحدثت مشادة بين جدى وبينه لغضبه من الدور الذى نسبه إليه، وحاول الآخر الدفاع عن نفسه، معللاً أنه لم يكن يكتب رواية عن شخصية صاحب القهوة وأن الكاتب من حقه أن يوظف الأدوار كما يرسم خياله، لكن جدى لم يقتنع وانصرف (محفوظ) غاضبا ولم يدخل المقهى من يومها". ويتابع على قائلاً "بالرغم من الغضب الذى اكتنف جدى وقتها إلا أنه غضب بعد ذلك على العلاقة التى أفسدها بينه وبين نجيب، حتى أن صورة محفوظ التى أهداها يوماً لجدى علقها على الحائط إلى جانب صورته لتبقى حاضرة إلى اليوم وشاهدة على تاريخ مضي". وعند سؤاله عن عدم وجود لافتة للزقاق قال "لقد تم سرقة اللافتة من قبل أحد السياح، وبعدها علمنا أنه تم وضعها فى أحد معارض أوروبا كأثر تاريخي، نتيجة شهرة الزقاق بعد رواية وفيلم محفوظ، وتوافد العديد من القنوات والصحافة الأجنبية لرؤيته بعد أن تم تصويره كأحد أهم ملامح القاهرة القديمة التى أبدع نجيب محفوظ فى وصفها". ومن داخل رواية أديب الوطن العربى يصف الزقاق قائلاً " التف زقاق المدق فى غلالة سمراء من شفق الغروب، زاد من سمرتها عمقا أنه منحصر بين جدران ثلاثة كالمصيدة له باب على الصنادقية، ثم يصعد صعودا فى غير انتظام، تحف بجانب منه دكان وقهوة وفرن، وتحف بالجانب الآخر دكان ووكالة ثم ينتهى سريعا كما انتهى مجده الغابر ببيتين متلاصقين، يتكون كلاهما من طوابق ثلاثة" ليبقى رنين كلماته حاضراً بعد رحيله يصف الحى واصفاً الزقاق الذى أطربه وأغضب قاطنيه فى إحدى روائع الأدب العربى، وهى رواية "زقاق المدق".