إطلاقاً.. ليست صدفة أن يرحل عن عالمنا، الزعيمان العظيمان، سعد زغلول ومصطفي النحاس، في يوم واحد.. بل ويرحل معهما، وفي نفس الشهر أيضاً، الزعيم الثالث فؤاد سراج الدين.. وان اختلفت الأعوام.. فالأول - سعدزغلول رحل عن مصر يوم 23 أغسطس عام 1927 والثاني - مصطفي النحاس - الذي رحل في نفس اليوم ولكن عام 1965.. ثم رحل عنا الزعيم الثالث سراج الدين، في شهر أغسطس أيضاً.. والثلاثة هم زعماء الأمة.. ورؤساء حزب الوفد التاريخيون.. وإذا كان هناك من يقول إن الخلافات دائماً ما كانت تنشب بين القادة والزعماء في مصر وخارجها.. فإن هذا لم يحدث أبداً، بين، أو مع، هؤلاء الثلاثة.. فهل هي وحدة الهدف.. أم هي وحدة المصير؟.. أقولها بكل صراحة.. بل هي وحدة حب هذا الشعب التي جمعت بين الثلاثة.. فقد أحب الثلاثة شعب مصر.. وأحب الشعب هؤلاء الثلاثة.. ويكفي ما حدث في جنازاتهم.. فقد توقفت الحياة تماماً في مصر يوم وفاة الزعيم الأول «سعد زغلول».. فقد خرجت الأمة كلها تودعه، حتي الملك فؤاد - عدوه اللدود - حزن عليه بالفعل.. وأرسل من ينوب عنه، لتوديعه.. وأخذ كل المصريين يؤرخون للأحداث بيوم وفاته.. فيقولون، هذا مات قبل وفاة سعد باشا، أو هذه الواقعة حدثت بعد وفاة سعد باشا.. اذ كانت الأمم تؤرخ أحداثها بما عاشته أيام رجالها العظماء.. وهكذا كانت مصر.. وهكذا كان سعد باشا .. فهو ابن الفلاح الذي تعلم ووصل إلي أعلي المناصب، وهي الوزارة.. ولكن عندما تفجرت مطالب الأمة في الجلاء والاستقلال.. ترك سعد باشا كل ذلك، وانطلق يقود مطالب الأمة منذ انتخبه الشعب في دائرتين معاً وهذا لأول مرة، عضوا في الجمعية التشريعية، البرلمان، وكان قد تجاوز سن الشباب، حتي نقول إن روح الشباب قد تقمصته.. ولكنها كانت حكمة الشباب.. وبلغ من درجة حب الشعب لسعد - أيام لجنة ملنر - أن كان الرد الوحيد علي لسان الناس - إذا سألتهم اللجنة عن شيء - كان الشعب يرد: اسألوا سعد باشا.. حتي شاعت نكتة تقول إن أحد الانجليز من أعضاء اللجنة سأل مواطناً مصرياً: كم الساعة الآن.. فرد المصري: اسألوا سعد!! واستطاع سعد باشا ان يرسخ قواعد دستورية هامة ومن البداية مثل من له حق ترشيح المعينين في مجلس الشيوخ، الملك أم رئيس الحكومة التي انتخبها الشعب.. وتغلب رأي سعد باشا.. وهو الذي فرض علي الملك تعيين أكثر من وزير مسيحي في الحكومة بزغم أن كل الوزارات قبله كانت تضم وزيراً واحداً.. فقال الملك فؤاد: نحن أمة واحدة، والانجليز لم يفرقوا في رصاصهم الذي يطلقونه علي المظاهرات بين مسلم ومسيحي.. وفرض سعد ارادته.. بل هو أول من أدخل الافندية الحكومة وجعل منهم وزراء، بعد أن كان المنصب مقصوراً علي.. الباشاوات!! وهكذا، ويكفي أنه كان أول سياسي يحمل لقب: رئيس حكومة الشعب.. فهي أول حكومة جاء بها الشعب، وهو من قال عنه الناس: لو رشح الوفد.. لانتخبناه، ثقة في الوفد وفي سعد.. ومصطفي النحاس الذي حمل الراية - بعد سعد باشا - هو ابن تاجر خشب في سمنود، تعلم حتي أصبح قاضياً مشهوراً.. ثم محامياً ضليعاً.. عندما استقال ليقود النضال الوطني.. ونسي نفسه حتي انه لم يتزوج الا بعد ان تجاوز عمره الخمسين عاماً.. فقد تزوج الوطنية.. واعطي الوطن كل ما عنده ولولا أن النبوة قد انتهت برحيل سيد الخلق سيدنا محمد رسول الله لأصبح النحاس نبي الوطنية.. وهو نموذج لمن ينسي نفسه.. من أجل الوطن ولذلك كان نموذجاً فريداً للزعماء الذين وهبوا حياتهم للوطن، بل هو النموذج ناصع البياض، لمن أعطي للعمل الوطني، ولم يأخذ من العمل الوطني.. ويكفي أنه اضطر لاستبدال جزء من معاشه لكي ينفق علي متطلبات الحياة، ولم يملك بيتا.. بل كان يسكن بالايجار.. حتي بيته في جاردن سيتي كان مستأجراً له، بعد بيته في مصر الجديدة وكان أيضاً بالايجار.. وليس سراً أن كبار الوفديين - ومنهم عبد المجيد الرمالي كانوا يتحملون عنه دفع ثمن الادوية التي يعيش عليها في أيامه الأخيرة.. وإذا كان سعد قد قاد ثورة 19.. فإن النحاس كان هو الزعيم الروحي بل والاب الحقيقي للمصريين.. وإذا كانت صفية زغلول - زوجة سعد باشا- هي أم المصريين، فإن النحاس باشا كان والداً لكل المصريين. وهل هي صدفة - أن كليهما «سعد والنحاس» لم ينجبا ذرية أبداً أم لكي يصبحا فعلاً هما الاب الشرعي.. لكل المصريين.. لقد عاش أبي عصر سعد باشا.. وعشت أنا عصر النحاس باشا ورأيته -في حياته مرتين -ولكنني لست «سعدياً بل أنا نحاس الفكر والاسلوب.. ولست «سراجياً» رغم اقترابي وعملي مع فؤاد سراج الدين.. ولكن علاقتي بالنحاس باشا بدأت منذ زرعتها أمي في ذاكرتي وأنا صبي دون الخامسة من عمري.. ومازالت كلماتها ترن في مسمعي: يارتني أشوفك يا ابني.. زي النحاس باشا!! رحم الله أنظف زعماء مصر وأكثرهم نزاهة في تاريخ هذه الامة: سعد زغلول والنحاس.. اللذين رحلا عن حياتنا مثل أمس.. ويالها من ذكري.