علي نحو أفضل، ندرك جوهر الدعوة إلي دعم أبناء الوطن لاقتصاد بلادهم، لو أكدنا علي ما في ذلك من إعلاء لشأن قيمة «العمل» علي ما عداه من قيم سلبية ليست علي صلة حقيقية بمقتضيات المرحلة الدقيقة الراهنة، وما تفرضه من حشد لمختلف الجهود الوطنية في مواجهة التحديات والمخاطر المحيطة بالوطن. فليس التاريخ يذكر دولة نهضت «تبرعاً»، وإنما عملاً جاداً مخلصاً لا يبتغي إلا الصالح الوطني، وهو ما يجعل من المشاركة في بناء دولتنا الديمقراطية الحديثة التي ننشدها، أمراً متاحاً أمام كافة أبناء الوطن؛ ومن ثم لا يحجب فقر الفقراء شرف المشاركة في البناء، ولا يزيد غني الأغنياء حقوقاً تتجاوز أبعاد مفهوم المواطنة. من هنا كانت «القيم» علامات فارقة في التعبير عن مسار الحالة المجتمعية إذا ما نهضت نحو إحداث تغيرات تنتقل بأوجه الحياة إلي نوعيات مختلفة؛ فدون تغيرات جذرية تنال من القيم المجتمعية السائدة، لا يمكن التأكيد علي وجود حالة ثورية حقيقية، إلي حد التأكيد علي أن لا ثورة نهضت إن لم تتغير القيم المجتمعية إلي الأفضل. ولما كانت سمة الثورات الشعبية أن تبلغ مداها في مختلف مسارات العمل الوطني، لا يتخلف في ذلك العمل السياسي عن مثيله الاجتماعي أو الاقتصادي، فإن الدرس التاريخي المقارن يؤكد كيف كان العمل السياسي قاطرة التحول الديمقراطي الذي عبر عن حالة ثورية حقيقية عبرت بمجتمعات عدة صوب حياة أفضل جسدت بصدق طموحات أبناء الشعب، وفق ما جاء في الأولويات التي شكلت مجمل «الخطاب الثوري». من هنا لا ينبغي أن تتراجع خطوة العمل السياسي، وتقصر عن تحقيق حياة سياسية تتوفر لها مقومات العملية الديمقراطية المتعارف عليها في مختلف المجتمعات الديمقراطية المعاصرة؛ فليس في السعي نحو نهضة اقتصادية واجتماعية، ما يعد بديلاً مناسباً، أو يحول دون تقدم حقيقي علي مسار العمل السياسي، ذلك أن رؤية تنموية شاملة لا ينبغي أن تغيب عن كل جهد وطني مخلص يدفع باتجاه بناء دولتنا الديمقراطية الحديثة. وعليه، فإن اللجوء إلي منظومة القيم الحاكمة لحركة المجتمعات المتقدمة، بات أمراً لا ينبغي إخضاعه لمساومات ومزايدات، تخصم ولا تضيف إلي رصيد ديمقراطيتنا الوليدة؛ ودون ذلك يطول بنا الطريق، علي غير هدى، نحو بلوغ أهداف ثورتنا المجيدة. فليس بمعزل عن العمل «المؤسسي» يمكن أن ندفع بمختلف الجهود الوطنية باتجاه آمال الشعب في تحول ديمقراطي حقيقي، لا تتخلف عنه مشاركة سياسية فعالة تستنهض همم أبناء الوطن، وتبتعد بهم عن مقاعد المشاهدين وصولاً إلي ساحة العمل السياسي. والواقع أن الأحزاب هي الأداة الكفيلة بتحقيق ذلك، لما توفره من مسارات متباينة من شأنها استيعاب مختلف التيارات الوطنية، علي تعدد منابعها الفكرية، وتنوع أيديولوجياتها السياسية، متى استندت إلي أرضية وطنية، وعبرت بصدق عن جملة القواسم الوطنية. ولا يقلل من ذلك ما يشوب أداء بعض الأحزاب من تراجع عن المفهوم الحقيقي للحزب السياسي، أو ما يعتمل داخل البعض الآخر منها من صراعات داخلية، أو ما يلمسه المواطن من ارتفاع أصوات الخلافات الدائرة بين بعض الأحزاب، فتلك ملامح حاضرة بالقطع في حياة ديمقراطية ناشئة، تمثلها الحالة المصرية؛ وبالتالي لا ينبغي أن تشير إلي تعارض الأحزاب مع مقتضيات المرحلة، وتراجعها في الشارع السياسي، ولا يصح أن تبرر هجوماً متواصلاً عليها بغية إخراجها من المعادلة السياسية، قدر ما يؤكد ذلك علي حتمية ترسيخها في الثقافة المجتمعية، إذا أدركنا أننا لسنا بصدد «ابتكار» ديمقراطية تُعادى قيمها الأساسية.! «رأي الوفد»