تتزاحم الكلمات والذكريات الحبلى بالسعادة والامل حين كنا نحبو على بلاط الملكة تحت رعايته وتوجيهه، لتتصارع مع الذكريات المفعمة بالالم العظيم وأنا اقف امام هذا اليوم، يوم ذكرى رحيله عنا فى 30 يونيو قبل ربع قرن من الزمان، فمهما كتب كل من سمعوا عنه او قرأوا مقالاته من كلمات رثاء وسرد بطولاته كفارس اول فى عالم الصحافة المعارضة، لا يمكن ابدا أن يصلوا الى حقيقته الفريدة، تلك التى عايشناها عن قرب كتلاميذ له فى الوفد، تربوا فى مدرسته على الصدق وشجاعة المواجهة وقول الحق ابداً، وتعلموا كيف يظلون صامدين فى الميدان لا يحملون سوى القلم والكاميرا سلاحاً ضد الفساد والظلم دون خوف، لا يردعنا تهديد أو ترهيب من أصحاب السلطة والنفوذ، فقد كانت أعيننا مفتوحة وجريئة لا يكسرها أحد، وهامتنا عالية لا تنحنى الا لخالقنا، لسبب بسيط، لانه كان رجلاً لا يمكن اغراؤه او شراؤه بأى مال او نفوذ، وما اكثر مغريات هذا الزمان التى كانت تطرح طمعا فى استقطاب ولائه أو تهدئة ثورته من اجل الوطن والمواطن المطحون، فقد قال الرجل بكل قوه «لا»، لانه منذ دخل بلاط صاحبة الجلالة قرر الا يبيع ضميره وقلمه، حتى وافته المنية ومات كفارس نبيل فوق جواد لم يكن له ابدا كبوة. نعم اشهد امام الله انه كان فارساً بجواد لم يكن له كبوة، لا ينافق ولا يجامل على حساب قضية او حق، ولا يعترف بأى خطوط حمراء وضعها النظام او احتمى بها اى مسئول، فقد تجاوز كل الخطوط الحمراء، فكرهه الفسدة، واحبه الشعب المصرى، وكان القراء ينتظرون جريدة الوفد كل صباح، لتهل عليهم وكأنها هدية فى يوم عيد متجدد، لانها كانت لسان حالهم، والمعبر عن آلامهم، فتأرقت مضاجع كل من بالنظام، وصار كل منهم خائفاً من أن يأتى عليه الدور ليتكشف فساده على صفحات الوفد، وكم حيكت من دسائس، وكم اتخذت من قرارات لمصادرة الجريدة، لكن كل المؤامرات تحطمت امام ارادة الفارس. كان استاذى مصطفى شردى صانعا للنجوم من ابنائه الصحفيين، النجوم الحقيقية التى تضيء طرق الظلام وتكشف مواطن العطب والفساد السلطوى، وتتحول فى اللحظة المطلوبة الى شهب تحرق اعداء هذا الوطن الذين ينهبون ثرواته ويفسدون المجتمع ويفككون نسيجه، كان يدفعنا للنجاح، لانه يعتبر نجاح أى صحفى وتفوقه نجاحاً لجريدة الوفد التى يقودها بل نجاح له هو شخصيا، وكان يفعل مالا يمكن ان يفعله انسان عادى، فكلما وصلته معلومة سريه أو سبق، كان يعطى المعلومة لاى صحفى منا ليسير وراءها ويكمل تفاصيلها وليكتبها الصحفى باسمه بمساعدته هو شخصياً، وهكذا كان السبق الصحفى والشهرة تنسب للصحفى الشاب وليس لاسم مصطفى شردى، رغم انه المصدر والاصل والمساعد والدافع، كان يفضل كثيرا ان يبقى فى الظل ليسطع الصحفيون الشبان متوهجين بنجاح هو سببه، فكانت كبريات الصحف بالداخل والخليج، تحاول ان تتلقفنا لنعمل بها او نراسلها، لكن اغلبنا فضل البقاء مع شردى، لانه منحنا الشعور بقيمة انفسنا، وقيمة ما تسطره اقلامنا، ومدى قدرتنا على تغيير الواقع البشع بما نكتبه الى مستقبل افضل، فكنت واحدة ممن تركوا العمل بجريدة الجمهورية بقسم الحوادث فى حينه لأتفرغ للعمل بالوفد فى الحوادث والتحقيقات ، وكان يستدعينى لمكتبه ، ليشكرنى على اسلوبى فى كتابة قصة الجريمة، واذكر يوما استدعانى، وكان بمكتبه مجموعة من الزوار بينهم فنانة معروفة ، وفوجئت به يقدمنى لهم قائلا ضاحكا «هى دى الست العجوزة اللى بتكتب قصة الجريمة» وتابع يقول اصلها «دى بنت الوفد»، وفهمت انهم طلبوا رؤيتى لاعتقادهم ان من تكتب هذه القصص سيدة مخضرمة فى الصحافة، وفوجئوا بشابة صغيرة لم تتجاوز 24 عاماً، وغادرت مكتبه واكاد اطير من السعادة. كان كلما لاقانى يوصينى بجملة يقولها اب حنون «انتِ شاطرة فى الصحافة بس ما تخليش الصحافة تسرقك وتنسى انك بنت لازم تتجوز ويكون لها بيت»، هكذا كان شردى ابا حنونا واستاذاً، لا يسعى وراء شهرة او مجد، بل كان يسعى لتحقيق النجاح والشهرة لابنائه من الصحفيين، وحين يحقق الصحفى نجاحا كان شردى سببه، يستدعى الصحفى ويشكره ويكافئه بمكافأة مالية، متناسيا انه هو سبب هذا النجاح وصانع هذا السبق ، فمن يفعل الآن ما فعله شردى فينا..؟ ، وما غرسه بأعماقنا من حب العطاء والتفانى وانكار الذات. ولكل هذه الاسباب وغيرها كثيرا مما تحتاجه صفحات كتاب، كان يوم رحيله عنا مشهوداً، لم اصدق انه مات ، هل يموت الهرم، هل يختفى جزء من النيل، هل تختفى قطعة من ارض مصر، اصيبت بانهيار عصبى، وتعلقت بنعشه بين الجموع الغفيرة امام مسجد عمر مكرم وانا اصرخ بكل لوعة الفقدان للاب والاستاذ والسند، حتى توارى نعشه عن انظارى، وعدت للوفد بحى المنيرة وظللت أدق على باب مكتبه المغلق اناديه ليرد على الصدى والفراغ، وبعد رحيله لم يطل بقائى بمصر وسافرت فى رحلة طويلة طويلة عملت خلالها كثيرا لأجل الوفد الذى علمنى استاذى شردى كيف احبه واعطيه دون انتظار المقابل، سافرت وعدت مؤخراً للوفد ايضاً، ومعى روح مصطفى شردى تقول لى «انتِ صحفية شاطرة»، ولم انس اننى بنت.