لأن الاقتصاد هو الوجه الأهم- ربما قبل السياسة- أعطي محمد علي ثم جمال عبدالناصر الاهتمام الأول للصناعة، التي هي أهم مقومات الاقتصاد. وفي هذا المجال أحسن «عبدالناصر» اختيار الرجال الذين وقفوا وراء مشروعه العملاق لتصنيع مصر.. كان هم الرجل هو انشاء العديد من المصانع- وصلت في نهاية عمره إلي 750 مصنعاً- انتشرت في مدن مصر ومراكزها.. ونال الصعيد حصة حيوية منها من الفيوم إلي بني سويف والمنيا.. وأسيوط وحتي نهاية أسوان.. فمن كان يقف حول «عبدالناصر»، ونجحوا في هذا البرنامج العظيم؟ أولهم شاب- في الأربعينيات من عمره- وكان أستاذاً بالجامعة اسمه الدكتور عزيز صدقي، الذي اختاره وزيراً للصناعة لينفذ له- ويضيف- العديد من المصانع.. لتكتمل منظومة تصنيع مصر. واختار عزيز صدقي مجموعة من أساتذة الجامعات وذوي الخبرة.. كان من أبرزهم د.عزت سلامة الذي عينه وكيلاً مساعداً للوزارة.. ود.يحيي الملا وكلاهما كان أستاذاً بالجامعة.. والغريب ان أولهما- عزت سلامة- أصبح محافظاً لأسوان- خلال بناء السد العالي- ثم أصبح وزيراً للكهرباء فوزيراً للإسكان.. ثم وزيراً للتعليم العالي وأصبح ثانيهما- بعد ذلك- وزيراً للصناعة. ولأن عزيز صدقي كان إدارياً ومنظماً ومتابعاً جيداً والأهم يعرف كيف يختار رجاله.. فإنه بعد أن قسم عمل برنامجه إلي مؤسسا توعية للصناعة.. عرف كيف يختار رجاله ليتولوا إدارة هذه المؤسسات. وقام التقسيم النوعي للصناعة علي: مؤسسة للتعدين. ومؤسسة للصناعات المعدنية. وأخري للغزل والنسيج. ورابعة للصناعات الهندسية. وخامسة للتعاون الإنتاجي، أي الصناعات الصغيرة، وأخري لمواد البناء والحراريات. ومؤسسة للصناعات الكيماوية. ومؤسسة للصناعات الغذائية.. وغيرها. واختار كوكبة كانت من أفضل رجالات مصر، كل في مجاله. محمد عبدالله مرزبان رئيساً لمؤسسة الغزل والنسيج مع شريف حسن وحسين عارف رئيساً لمؤسسة الصناعات الغذائية مع د.حسن عشماوي ود.حجازي لرئاسة مؤسسة التعدين مع د.سعد الدين النقادي. ود.محمد أحمد سليم لمؤسسة الصناعات الكيماوية ود.محمود علي حسن للصناعات الهندسية.. ومعه رائد صناعة السيارات في مصر الدكتور عادل جزارين.. تماماً كما كان هناك المهندس عمر أبوالدهب رئيساً لشركة الحديد والصلب رائد هذه الصناعة العظيم.. وكان هناك د.رشدي سعيد رئيساً لهيئة الأبحاث الجيولوجية.. وفي هذه الفترة كنت مسئولاً من أوائل الستينيات عن تغطية أخبار قطاع الصناعة لصحف أخبار اليوم، وكان معنا الزملاء: إبراهيم راشد ومحمود عوض ومحمد العتر.. بسبب ضخامة هذا القطاع الحيوي. وفي هذه الفترة عرفنا مشروعات عملاقة تفخر بها مصر.. وكان «عبدالناصر» يحرص علي أن يزور أي زائر كبير لمصر هذه المصانع العملاقة وفي مقدمتها مصانع الغزل والنسيج والحديد والصلب بحلوان. وكيما بأسوان والألومنيوم في نجع حمادي والفيروسيلكون في ادفو. ومجمعات البترول في السويس والإسكندرية وطنطا ومسطرد. تماماً كما تابعنا انشاء مصانع الفيرومنجنيز في جنوبسيناء. وسيناء للفحم. ومصانع انتاج القطارات «سيماف» في وادي حوف بجانب مصانع النصر للسيارات. ولم تكن هذه المناطق مجرد «مكن» أي مصانع مجردة، بل تحولت إلي مدن سكنية تضم المساكن الصحية والعيادات والمدارس والمساجد.. والنوادي.. وامتدت يد عزيز صدقي إلي ما كان موجوداً من مصانع في المحلة وكفر الدوار وكفر الزيات لكي يطورها ويزيد من قدراتها.. حتي حديد الواحات مد له خطوطاً للسكة الحديد لنقله من الواحات إلي التبين.. فقد كان «عبدالناصر» يرفض تصدير أي مواد خام.. بل كانت هذه المصانع تتولي انتاجها لتغطية السوق المحلية.. وما بقي يتم تصديره. المهم أن هذا المشروع العملاق «تصنيع مصر» حول مصر إلي خلية عمل رائعة.. وكما كان علماء اليابان يزورون مصر ليتعلموا من تجربة محمد علي.. كان رجالات العالم يزورون مصر أيام «عبدالناصر».. وأتاحت هذه المصانع مئات الألوف من فرص العمل أمام المصريين. ومنهم لله الذين باعوا كل ذلك برخص التراب. ونحن هنا نعيد ذكري هذه النهضة ونضعها أمام المشير السيسي لأن مصر أحوج ما تكون الآن لمثل هذا العمل.. بل وأكثر منه.. بشرط أن يحسن «السيسي» اختيار رجاله.. ومن يقف خلفه.. للنهوض بمصر. وذكر فإن الذكري تنفع المؤمنين!