رئيس جامعة المنيا يشهد حفل ختام الأنشطة الطلابية لكلية التربية الرياضية    غدا.. نقابة الأطباء البيطريين تحتفل بيوم الطبيب بدار الأوبرا المصرية    ماذا قالت إسبانيا بعد قرار إسرائيل تجاه قنصليتها في القدس المحتلة؟    القاهرة الإخبارية: خسائر قطاع غزة تقارب 33 مليار دولار وتهدم 87 ألف وحدة سكنية    وزير الدفاع اللبناني: الدفاع عن الأرض سيبقى خيار الدولة اللبنانية    بوليتيكو: معظم دول الاتحاد الأوروبي لن تقدم على المساس بأصول روسيا المجمدة    الشناوي يثير الجدل قبل نهائي أفريقيا: معندناش مشاكل والصحافة المصرية تصنعها    نجم مانشستر يونايتد يعلن موقفه النهائي من الانتقال إلى السعودية    لاعب ليفربول السابق: صلاح قادر على تكرار إنجاز رونالدو    قرار عاجل من جوميز قبل مواجهة الاتحاد السكندري في الدوري    طلاب الدبلومات الفنية يؤدون امتحاني اللغة العربية والتربية الدينية غدا بدمياط    شقيقة فتاة التجمع: النيابة أحالت القضية لمحكمة الجنايات.. والقرار دليل على إدانة السائق    هل انتهت الموجة الحارة؟.. مفاجآت سارة من الأرصاد للمصريين    الجمعة أم السبت.. متى وقفة عيد الأضحى 2024 وأول أيام العيد الكبير؟    الفيلم المصرى رفعت عيني للسما يحصل على جائزة أفضل فيلم تسجيلي بمهرجان كان بدورته 77    أبرز رسائل التهنئة بعيد الأضحى 2024    متي يحل علينا وقفة عرفات وعيد الأضحى 2024؟    المفتي يرد على مزاعم عدم وجود شواهد أثرية تؤكد وجود الرسل    هيئة الرعاية الصحية تشارك في مبادرة الاتحاد الأوروبي بشأن الأمن الصحي    الأهلى يكشف حقيقة حضور إنفانتينو نهائى أفريقيا أمام الترجى بالقاهرة    مجلس الشيوخ يناقش أموال الوقف ونقص الأئمة والخطباء ومقيمي الشعائر.. الأحد    أبرزها قانون المنشآت الصحية.. تعرف على ما ناقشه «النواب» خلال أسبوع    أوقاف القليوبية تنظم قافلة دعوية كبرى وأخرى للواعظات بالخانكة    التموين تستعد لعيد الأضحى بضخ كميات من اللحوم والضأن بتخفيضات 30%    مصرع وإصابة 3 أشخاص في الشرقية    بوليتيكو: واشنطن تدرس القيام بدور بارز في غزة بعد الحرب    محافظ أسيوط يتابع مستجدات ملف التصالح في مخالفات البناء    وفاة شقيقة الفنانة لبنى عبد العزيز وتشييع جثمانها اليوم    عائشة بن أحمد تكشف سبب هروبها من الزواج    بطولة عمرو يوسف.. فيلم شقو يقفز بإيراداته إلى 72.7 مليون جنيه    هل تراجعت جماهيرية غادة عبدالرازق في شباك تذاكر السينما؟.. شباك التذاكر يجيب    رئيس جامعة المنيا يشهد حفل ختام أنشطة كلية التربية الرياضية    التنمية الصناعية تبحث مطالب مستثمري العاشر من رمضان    قافلة الواعظات بالقليوبية: ديننا الحنيف قائم على التيسير ورفع الحرج    بالفيديو.. متصل: حلفت بالله كذبا للنجاة من مصيبة؟.. وأمين الفتوى يرد    3 وزراء يجتمعون لاستعراض استراتيجيات التوسع في شمول العمالة غير المنتظمة    مدير جمعية الإغاثة الطبية بغزة: لا توجد مستشفيات تعمل فى شمال القطاع    وزير الري: إفريقيا قدمت رؤية مشتركة لتحقيق مستقبل آمن للمياه    الجيش الأمريكي يعتزم إجراء جزء من تدريبات واسعة النطاق في اليابان لأول مرة    الشرطة الإسبانية تعلن جنسيات ضحايا حادث انهيار مبنى في مايوركا    لمدة 4 ساعات.. قطع المياه عن منطقة هضبة الأهرام مساء اليوم    الإفتاء: الترجي والحلف بالنبي وآل البيت والكعبة جائز شرعًا في هذه الحالة    وزارة الداخلية تواصل فعاليات مبادرة "كلنا واحد.. معك في كل مكان" وتوجه قافلة إنسانية وطبية بجنوب سيناء    تعشق البطيخ؟- احذر تناوله في هذا الوقت    أبرزها التشكيك في الأديان.. «الأزهر العالمي للفلك» و«الثقافي القبطي» يناقشان مجموعة من القضايا    الأكاديمية العسكرية المصرية تنظم زيارة لطلبة الكلية البحرية لمستشفى أهل مصر لعلاج الحروق    تعرف على مباريات اليوم في أمم إفريقيا للساق الواحدة بالقاهرة    الإسكان: تشغيل 50 كم من مشروع ازدواج طريق سيوة - مطروح    رئيس الأركان يتفقد أحد الأنشطة التدريبية بالقوات البحرية    انطلاق امتحانات الدبلومات الفنية غدا.. وكيل تعليم الوادى الجديد يوجه بتوفير أجواء مناسبة للطلاب    أخبار الأهلي : دفعة ثلاثية لكولر قبل مواجهة الترجي بالنهائي الأفريقي    "صحة مطروح" تدفع بقافلة طبية مجانية لخدمة أهالي قريتي الظافر وأبو ميلاد    الصحة العالمية: شركات التبغ تستهدف جيلا جديدا بهذه الحيل    «العدل الدولية» تحاصر الاحتلال الإسرائيلي اليوم.. 3 سيناريوهات متوقعة    حظك اليوم برج العقرب 24_5_2024 مهنيا وعاطفيا..تصل لمناصب عليا    مدرب الزمالك السابق.. يكشف نقاط القوة والضعف لدى الأهلي والترجي التونسي قبل نهائي دوري أبطال إفريقيا    مقتل مُدرس على يد زوج إحدى طالباته بالمنوفية    إصابة 5 أشخاص إثر حادث اصطدام سيارة بسور محطة مترو فيصل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



15 عاما فى جحيم"الباستيل الليبي"
نشر في الوفد يوم 02 - 07 - 2011

ليس ما سنسرده فصلا من رواية تخيلية اجتهد صاحبها ليصل بالقاريء الى اقصى مراحل التشويق وجذب الانتباه, انما ما سنرويه مشهد مقتطع من حياة فرد ينتمى الى وطننا العربى, بل ان الادق فى الوصف أنه مشهد يقتطع قرابة نصف عمره.. مشهد خلا من مظاهر الامتاع فى الحكى لأنه وبكل بساطة مشهد ينتمى الى امتهان نفس بشرية قضت 15 عاماً بسجون العقيد ملك ملوك أفريقيا وحامى القومية العربية. لذا ليس غريبا عليه ان يصاحب الموت لأنه رآه يعانق أحد الرفاق داخل زنزانة تجمعهم بمعتقل بو سليم بالعاصمة الليبية طرابلس .فبطل الحكاية لا يهاب الموت بل لا تدهش اذا اخبرتك انه طالما اشتهى الموت ليرتاح من عذابات شتى داومت على مطاردته .حتى عينه أقر لى بطلنا انها لم تعد تعرف معنى البكاء فقد بكى لطيلة الثلث الاول من حياة الاعتقال وبعدها نصحه شيخ –لا يعرف اسمه - بألا يبكى لأنه لا جدوى من البكاء ..فمن يدخل هنا عليه ان يدرك انه لن يبرح هذا المكان..
الاسم :خالد مفتاح محمد الفاخرى
السن: بضعة اعوام فوق الثلاثين «ومن الافضل عدم إحصائها فقد استنزفت الاعوام داخل السجن»
المهنة : طالب منذ 15 عاما بكلية الهندسة جامعة قاريونس.
التهمة : لا توجد تهمة محددة ,أفاد بعض المخبرين بجماهيرية العقيد انه كان يتحدث مع رفاقه فى الجامعة فى امور حسبها الاخ قائد ثورة الفاتح من الكبائر وبات محظورا على عامة الشعب تداولها, وذكر بعض القوادين فى تقارير سرية رفعوها لقيادتهم بالامن الداخلى بجماهيرية العقيد أن الفتى كان يحمل مجموعة من الكتب أثناء دخوله وخروجه الى ساحة الحرم الجامعى وتبين لأحد البصاصين ان من بين الكتب كتاباً يحمل عنوان «صناعة الحياة» للكاتب محمد احمد الراشد. مما اثار حفيظة البصاص فداوم على مراقبته وتبين ان الطالب الجامعى خالد يتحدث فى امور لها علاقة بالديمقراطية وتفعيل دولة المؤسسات الامر الذى ينذر بسوء.
العقوبة :نصف عمره فى السجن . كل من دخلوا الى سجون العقيد اما ماتوا فيها او خرجوا بلا هوية بعد ان فقدوا عقولهم مما رأوه.
«الذين ندعهم فى السجون هم خلايا سرطانية يجب عزلها وعلى ذويهم ان يفقدوا الامل فى علاجهم لذا فمن الافضل ان يتناسوهم»... من خطاب الاخ العقيد قائد ثورة الفاتح فى احدى المناسبات التى يزخر بها الوطن...
البداية:
بمجرد ان تعرف ان شخصا قضى 15 عاما بالسجن فمن الطبيعى ان يتبادر الى ذهنك بشاعة الجرم الذى ارتكبه فيكون الجزاء من جنس العمل .الا ان خالد تلخصت جريمته فى انه صدق ما قرأه وأراد تطبيقه .لم يستخدم خالد الفاخرى المولوتوف ولا تدرب فى ساحات الجهاد مع رجال أبناء العم على المدفعية الخفيفة او الكلاش. جريمته انه قرأ كتبا وتحدث مع زملائه فى افكار هذه الكتب فاقتضت العقوبة السجن متنقلا من معتقل الى اخر ومن زنزانة الى أخرى.
فنسأله: إذن ما طبيعة الفكر الذى تنتمى اليه ودفع بك الى السجن 15 عاماً؟
- أولاً دعنى اوضح لك ان الكاتب محمد احمد الراشد هو احد الكتاب التنويريين فى ليبيا ,فهو يشبه الى حد كبير الاستاذ خالد محمد خالد والدكتور عمارة وسليم العوا .فهو يميل الى تغليب العقل وتبنى منهج عقلانى لتيسير امور الدولة. أنا شخص عادى لا انتمى الى تيار دينى او تنظيم قاعدى داخل ليبيا .باختصار انا شخص قرأ وأراد ان يتناقش مع زملائه فى الافكار التى قرأها.
دعنا نعد بالذاكرة 15 عاما ونتعرف منك على ملابسات الاعتقال.
فى عام 1995 انتشر البصاصون فى الحرم الجامعى وكان القذافى قد اصدر قرارا بتصفية الجامعة من الطلاب ذوى الاتجاهات الفكرية المختلفة, وقد فوجئت بان مجموعة من الزملاء تم اعتقالهم بسجن ابو سليم او ما يعرف فى الوسط الطلابى باسم الباستيل الليبى لما يحكى عنه من حكايات مرعبة .تحديدا فى يوم حملة الاعتقال لم اكن متواجدا فى بنغازى وانما كنت فى مدينة قريبة من بنغازى وتوافدت الى الاخبار بان زملائى بالكلية تم اعتقالهم فكان هذا مؤشرا بالغياب وبداية رحلة المعاناة.
فى ورشة الحدادة
ومنذ علمى والكلام لخالد بنبأ الاعتقال قررت ان ارتحل عن المكان الذى كنت فيه لأن ببساطة المطلوب سياسيا أشبه بمريض الجذام الذى يفر منه الجميع, وكان على ان ادرك هذا وانا مازلت فى الثامنة عشرة من عمرى ,ما أذكره ان والد صديقى الذى كنت عنده اعطانى مائة دينار وقال لى جملة واحدة «الله غالب يا خالد».
من يناير 1995 الى يوليو من نفس العام وانا اتنقل بين المدن الليبية باسماء مختلفة, عملت فى مهن يدوية محاولا التخفى والابتعاد عن الانظار ,سافرت الى مدينة درنة وقد قاربت نقودى على النفاد فالتحقت بالعمل بورشة حدادة ,رغم ان جسمى كان نحيلا وكنت اتعمد الذهاب الى المسجد كى استطيع الحصول على ساعات نوم معدودة اقوم فيها بغسيل جسمى واخلد لساعة او اثنتين على الاكثر للنوم .لم يكن عند اهلى علم بما كنت اقوم به بل ان والدى فى هذه الايام ادرك اننى قد اعتقلت لكنه فوجيء بى أتصل به واخبره عن مكانى .فبكى واخبرنى ان اظل هناك وسوف يقوم هو بمحاولة الوصول لى .كان صاحب ورشة الحدادة رجلاً طيباً ولا حظ ان جسمى لا يقوى على مهام المهنة الشاقة فعرض على مساعدته فى بعض الاعمال الادارية البسيطة ككتابة الوارد من الخامات ,لكنه فوجىء بى لحظة حدوث عطل كهربى بالورشة اننى قمت باصلاح العطل ولم ننتظر فنى الصيانة فأدرك ان ورائى سراً, ولأنه كان رجلا طيبا ,تحاشى ان يسألنى عن طبيعة مسكنى ,كنت فى هذه الايام ابيت فى الشوارع على كرتونة وكثيرا ما جاورت المصريين على الرصيف ,يسمونه «فندق ابو كرتونة» لان الشخص يحصل على قطعة من الكرتون ويبيت ليلته حتى يفتح اقرب مسجد للمكان. ومر على وضعى اكثر من شهرين ولاحظ صاحب الورشة اتساخ ملابسى فقرر ان ابيت بالورشة بحجة حراستها من الزنوج الذين يأتون لسرقة الحديد فى الليل . وكنت اخبر زملائى العمال باننى يتيم واننى لا اعمل وان اهلى بطبرق عاجزون عن اعالتى بسبب فقرهم. مازلت أذكر تلك الليلة التى ادعيت فيها الجنون حين استوقفنى أحد حراس الامن بسبب ملابسى الرثة. يستفسر عن هويتى ولما تأكد اننى ليبى صفعنى على وجهى وتركنى لحال سبيلى. وفى شهر مايو من عام 1995 فوجئت برجل مسن ياتى الى فى الورشة التى اعمل بها ويقوم بمعانقتى وكان قد اخفى وجهه بالشال فلما نظرت اليه وجدته عمي, فبكى وبكيت انا الآخر, واخبرنى يومها ان ابى تم القبض عليه هو واخى كرهينة لحين تسليم نفسى للامن الداخلى الليبى ,ودس عمى فى يدى قرابة الخمسمائة دينار واخبرنى بضرورة السفر الى السودان ومحاولة تدبير النفقات ,لانى صرت مطلوبا بالاسم بعد ان اعترف زملائى من قوة التعذيب على اسمى وقد ظن الامن الليبى ان عندى معلومات اخفيها عن خلايا طلابية تسعى للتمرد على النظام الجماهيرى.
أدرك صاحب الورشة التى كانت تأوينى ان فى الامر شيئا لكنه كان طيبا لدرجة لا يمكن تخيلها .فقد تظاهر بالانشغال عنى طيلة اليوم حتى انصرف العمال .ووجدته يصحبنى الى مكان بعيد عن الورشة بحجة تشوين بعض الحديد ,وفوجئت به يبكى ويدس فى يدى حوالى مائتى دينار ويخبرنى بضرورة الرحيل عن درنة لان صورتى قد اطلع عليها فى الصحيفة الرسمية ولم يعد من الامان وجودى هنا .واخبرنى بعدها بضرورة التخفى مخافة الابلاغ عنى.
الطريق الى السودان
وعن طريق المبلغ المالى الذى جمعته قمت بالاتصال ببعض الزملاء واخبرتهم بتوفير وسيلة للسفر الى السودان ,وكان معى ثلاثة من الزملاء علمت بعد ذلك انهم افلتوا من الاعتقال وان اسماءهم باتت هى الاخرى مطلوبة للسجن ,نسقت معهم ضرورة الالتقاء والسفر الى السودان.
ونسأله: لكن لماذا السفر الى السودان وليس الى مصر مثلا او تونس؟
فيجيب: للأسف نظام مبارك كان شديد التعاون مع القذافى فيما يخص المعتقلين السياسيين وكذلك كان نظام بن على ,اما السودانى فقد توهمنا ان الاشقاء ذوى الفكر الاسلامى من انصار الترابى سيقومون بحمايتنا.
واترك خالد يواصل حديثه: واتفقت مع الزملاء باستئجار حافلة تقلنا الى السودان .ولكن لسوء الحظ ان اليوم الذى سافرنا فيه الى السودان كان القذافى قد أصدر امره بطرد جميع العمالة السودانية ,الامر الذى عاد بالسلب علينا فكنا نمر بالصحراء على الاشقاء السودانيين نجدهم ملقين فى الصحراء فكانوا يقذفوننا بالحجارة تعبيرا عن حالة الغضب بسبب تعامل القذافى معهم .الى ان وصلنا الى الحدود السودانية عبر مسالك الصحراء ,ولأن السيارة تحمل لوحات الجماهيرية فاستقبلنا السودانيون بوابل من الرصاص ,فتوفى كل من كان فى السيارة باستثنائى انا وزميل معى, تم نقلنا الى مستشفى سودانى ,وفقت على سرير بمستشفى طبى بمدينة الفاشر السودانية .كان غريباً أن أجد حفاوة من قبل قيادات سياسية لها ثقلها جاءت تزورنى انا ورفيقى الليبى, ثم طلبوا منى عدم الحديث مع الاستخبارات العسكرية السودانية موضحين انهم سيتقون الله فينا لانهم يعلمون ببشاعة ظلم القذافى.
الوعد الكاذب
وفى اليوم الثالث من وصولنا ارسلت السفارة الليبية أحد الضباط الكبار ويدعى مفتاح ابعيو وقام بسؤالنا مجموعة من الاسئلة ثم تركنا ومن لحظتها وقد زادت نسبة المخاوف بان ثمة امرا مريبا يحدث .وفى بداية الاسبوع الثانى فوجئنا باثنين من المصابين الليبين ينضمان الينا ,بعدها قام الحرس السودانى باصطحابنا الى سجن كوبر .بحجة ان بقاءنا فى السجن السودانى افضل لنا مخافة تصفيتنا جسدياً, وللاسف تمت معاملتنا بمنتهى القسوة وبسبب تدنى اوضاع السجن تمت اصابتى بالملاريا.
مكثت فى السجن مدة تزيد على 5 أشهر لم نعلم شيئا ,وحتى يوم 10 يوليو 1996 وفد الينا ضابط مخابرات سودانى اسمه حسن المكاشفى وطلب منا ركوب سيارة الترحيلات لاننا سنقابل الترابى .وكنا معصوبى الأعين وفى حالة صحية سيئة ,الا اننا نزلنا من السيارة لنجد طائرة رئاسية عليها العلم الليبى تنتظرنا ,ركبنا عنوة ونحن مقيدو الايدى والارجل ,ثم فوجئنا بالطائرة تهبط بنا فى الصحراء.
للاسف ادركنا اننا كنا سلعة للمقايضة بين نظام قمعى ونظيره الهمجى ,واصطحبنا الجنود الليبيون بمنتهى القسوة والبشاعة لدرجة انهم قاموا بشد من سقط منا من قدمه على الرمال حتى نزف ظهره, عصبوا اعيننا واركبونا سيارة بها زنازين انفرادية ولا تصلح لاى اقامة ادمية .سيارة اشبه بسيارات الكلاب .فكان المرسى هذه المرة بوسط الصحراء وقام قصاص أثر بربطنا بسلاسل من ايدينا وشدنا بصحبة مجموعة من الجنود الى ان وصلنا معتقل «عين زارة» بالجنوب الليبى.
ادركنا ان السجن هنا هو محطة ترانزيت لحين انتقالنا الى سجن الباستيل او بو سليم .7، أشهر ولا ابالغ فى كلمة لم نر فيها لا الهواء ولا الشمس وكنا نسمع صرخات التعذيب فى الغرف المجاورة .بعد ان نلنا حظنا من حفلة الاستقبال التى شملت ألوانا بشعة من العذاب الانسانى بداية بالكى بالنار الى الكى بالزيت الحارق ثم وصولا الى نباح الكلاب واظافرها التى تنشب فى لحمك, فتمنيت الموت اكثر من مرة بهذا المكان.
الطريق الى الباستيل
وفى منتصف فبراير 1997 وكان هذا اليوم يوافق ثالث يوم عيد الفطر .اصطحبونا وكنا فى هذه الايام استسلمنا لما يفعلونه بنا لاننا قد سئمنا التفكير .وسأذكر لك ان اصدقائى الذين كانوا معى لم يعدوا يعرفوننى وانا كذلك فوجئت باننى لا اعرفهم ولم اجد رغبة فى الحديث الى اى منهم ولا هم كذلك .اغمضوا اعيينا فكنا نستسلم للفعل دون اى ردة فعل حتى اننا سئمنا من السؤال عن المرحلة التى سنقدم عليها ,تستطيع ان تقول اننا صرنا نتحرك برد الفعل الادمى تجاه ما يفعلونه بنا, كدمى تتحرك بما تؤمر به.
فى سجن ابو سليم كان علينا ان نستعد نفسيا الى حفلة التعذيب فى الشهر الأول الذى يتم من ساعة لا نعلمها وينتهى وانت ملقى فى الزنزانة تفوح منك رائحة برازك التى تركت فى السروال دون ان تدرى لا متى ولا اين ولا كيف فعلتها على نفسك ,..كانت البداية بالهوندا وهى اداة تعذيب تشبه «الفلكة» عند المصريين ,ويظل السجان بكل قسوة يضرب قدميك ويطالبك بان تقوم تتراقص على موسيقى الراى الجزائرى, ما بين الالم والصراخ حتى لتحسب ان اناس هذا المكان الذين يداومون فعل التعذيب قد تحولوا الى مخلوقات نزعت الرحمة عن قلوبهم. وانت تتألم وهو يتصايحون من الضحك وينفجرون بالقهقهة ,اساتذة جامعات وأطباء ومعلمون ومهندسون يفعل بهم هذا ,حتى المسنين لم يرحموا احيانا من جلسات التعذيب .فالويل كل الويل لو نظرت الى الحارس فى الممر ,عليك ان تمشى منكس الرأس لا تنظر الى أحد, ولا انسى التعذيب بالمثقاب الكهربائى الذى يشبه «الشنيور» ونحن نصرخ باصوات تشبه الى حد كبير اصوات النساء فى عمليات الولادة .بينما الحراس يتلذذون بأناتنا. أما أهون الأساليب فى التعذيب فكان الجلد بالكرباج السودانى الشهير ,اتذكر اليوم الاول بسجن بو سليم حين اخبرنا قائد الحرس بضرورة اتباع تعليمات السجن ولا اعلم الى الان ما هى تعليمات السجن ,عام كامل كنا نعيش على رغيف خبز واحد وملعقتون ارز فى المساء ويشهد الله ان متعتنا كانت فى الأمر بتنظيف حشائش الارض واقسم بالله كنا نخلعها من الارض ونأكلها. وبسبب الجوع المستمر تمت اصابتنا بمرض الدرن الرئوى.
كنا اشبه بالعبيد ..فى السنوات الاولى كان علينا ان تكون حواسنا مرهفة لنداءات الحرس «اجر فنجرى.. ارقد فنرقد... نم فننام... قرفص فنقرفص «كانوا يتلاعبون باجسامنا احيانا كبيادق الشطرنج. ومرت السنوات الخمس الاولى وانا اصلى لله واطلب منه ان يقبضنى اليه لانى لم اعد قادرا على التحمل ,ومع نهاية السنة الخامسة سمحوا لابى بالزيارة. ولا تعجب اذا اخبرتك ان ابى صار غريبا عنى وصرت غريبا عنه. وكلما رآنى بكى .فطلبت منه ان يتوقف عن زيارتى بسبب ما يتعرض له من امتهان من قبل حراس السجن .ولما سالته عن والدتى اخبرنى انها بخير ,وكان شجاعا معى حين ذكر لى انه اخبرها اننى مت كى تستريح ويستريح قلبها, وانها تداوم قراءة سورة يس لكى يرحمنى الله فى قبرى ...لم اكن غاضبا مما فعله ابى فلعله كان رحيما بى وبها. طيلة 15 عاما لم ار والدتى. ولا اخوتى. وفى الليل يسوقنا الحرس الى الزنازين الانفرادية, فنجن من الوحدة ,كنا نتكلم عبر الحوائط ومن فتحات الابواب فى الاسفل كالحيوانات التى تحاول التواصل مع بعضها البعض .يتوقف محدثى قليلا ثم يعاود: لقد راينا الموت وهو يقترب ولا ابالغ اذا قلت لك اننى صافحته .حين انتشر بين المعتقلين وباء الدرن الرئوى فجمعوا المرضى ووضعوهم فى زنازين مجمعة ,دعنى اذكر معك مشهد سيدى حميد الذى بات يتالم ويصرخ فى الحراس طالبا فتح الزنزانة لانه يتالم وحرارته تتجاوز الاربعين ونحن نبحث عن زجاجات المياه التى افرغناها عليه الا انه لفظ انفاسه ,وفى الصباح قام الحرس بجره بقفازات واغطية للانف مخافة العدوى وتركوه فى الممر, اقسم بالله كنا نسمع صوت الفئران وهى تتقافز على جثته, ولولا ستر الموتى لاخبرتك بما احطت به خبرا . كنت مصابا وكنت منتظرا دورى فى الموت لكنه لم يأت.
وأجدنى فى منتهى الانانية وانا اضغط على محدثى نابشا الوجع والتلاعب فى الذكريات وأطلب منه أن يكمل حديثه عن معاناة 15 عاما فى الجحيم فيواصل متألما وكأنما يطالب الذاكرة بالكف: سأذكر لك يوم 13 مارس ,اليوم الذى يحتفل فيه القذافى بتسليم السلطة للشعب ,هل تعلم كيف كنا نعامل فى هذا اليوم. كنا نخرج الى ساحة السجن نائمين على بطوننا وياتى الحرس ليدوس باقدامه على اعناقنا بالخلف «انطق يا تيس.. الفاتح المجد للقائد ابو منيار» وكانت وجوهنا تتمرغ فى الرمال. فى كل احتفال كان يموت بين المعتقلين قل عشرة او عشرين سجينا, ويوم ان جاءت منظمات المجتمع الامريكى لتراقب حالة المعتقل .استضافتهم الادارة بالمشروبات الغازية واستقلوا طائرتهم التى هبطت بساحة السجن وانصرفوا....
15 عاما مروا من عمرى لأجد اخى الذى تركته فى عمر شهر يستقبلنى وهو يقود سيارته, وأنا أجاوره وهو غريب عنى وانا غريب عنه. والأغرب أننى خرجت من السجن لعدم ثبوت تهمة ادانة ضدى, بعد 15 عاماً أخرج من السجن لعدم ثبوت تهمة .الا ان المشهد الذى لم أنسه ولم استطع مفارقته هو مشهد السجين صلاح مقراز وانا اقف خلفه فى طابور الدواء اثناء الكشف فى السجن.قال لى يا خالد «والنبى حاجة حلوة اضعها فى فمى» وابتسم لى وسقط مفارقا الحياة، ومشهد اخر لزميلى الذى احتجزوه فى زنزانة انفرادى لمدة تزيد على 5 أشهر فخرج علينا فى العنبر فى حالة هستيرية ولما حاولنا تهدئته قبض على عنق زميل اخر ولم يتركه الا وقد فارق الحياة, زميلى الذى ذهب عقله ومثله كثيرون يسيرون بشوارع بنغازى عرايا ويحملون اجولة الخيش هائمين على وجوههم وهم من خيرة المجتمع, كتاب وادباء لم يستطيعوا تحمل جحيم الباستيل ومعتقل ابو سليم فاستسلموا للجنون...
أنا وبطل الحكاية والساعة قد قاربت العاشرة بمقر الجريدة ,لا اعلم كيف انهى لقائى به, وقد انتابتنى حالة من الصمت, أنقب فى هاتفى عن رقم يوسف ابو عليم الذى طالبنى بالاتصال به كى ياتى لاصطحاب شقيقه الليبى, ويسير ثلاثتنا فى ليل القاهرة ,يتوسطنا الفاخرى, ويوسف يتحدث عن قومية عربية تجمعنا من المحيط الى الخليج وانا اتحدث عن حق خالد فى 15 عاما مبتورة من عمره, بينما خالد يبتسم ويسرع فى التقاط صورة بجوار اسد قصر النيل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.