بعد أن اعترف الطبيب والإعلامى باسم يوسف أخيراً باقتباس طرح لكاتب أجنبى دون ذكر اسم صاحب هذا الطرح ليثير جدلاً واسعاً ومستمراً على وسائل التواصل الاجتماعى فإن هذا الاعتراف يفتح مجدداً "ملف الانتحال". ترجع القضية إلى موضوع يتعلق بالأزمة الأوكرانية أغفل فيه باسم يوسف ذكر اسم الكاتب الأصلى للطرح الذى نقله ووقع عليه باسمه، فيما كاد يكون مجرد ترجمة للطرح الذى كتب بقلم الكاتب البريطانى "بن جودا"، وهو من المتخصصين فى الشأن الروسى. كان باسم يوسف اعتذر لقراء الجريدة التى نشر بها هذا الموضوع المنتحل، وأقر بأن ما حدث هو "خطأ مهنى"، وقال فى مقالة بجريدة الشروق "قررت الامتناع عن الكتابة لبعض الوقت"، مضيفاً "تعاملت مع الموضوع بقدر كبير من البلاهة والتسرع والمكابرة والاستهبال". أردف يقول: "أتحمل المسئولية كاملة، واستحق كل كلمة هجوم"، مؤكداً على أنه ارتكب "خطأً جسيماً"، فيما سلم بأنه "فقد ثقة الكثيرين بلا رجعة"، بينما تتواصل ردود الأفعال والتعليقات على مواقع التواصل الاجتماعى بالشبكة العنكبوتية. وفيما يكابد باسم يوسف محنة "ضبطه متلبساً بالانتحال"، فإن الكاتب والصحفى الشهير فريد زكريا كان قد تعرض لمحنة "مشابهة" فى صيف عام 2012. ومع ذلك فإن هذا الكاتب الأمريكى، والمنحدر من أصل هندى الذى يعد نموذجاً "للكاتب النجم بمقاييس وسائل الإعلام والميديا"، لم يكن أول من هوى فى هذه الخطيئة، ويبدو أنه لن يكون الأخير فى مسلسل متصل الحلقات منذ زمن بعيد وطال أسماء كبيرة فى مجالات متعددة فى الغرب والشرق معاً. و"محنة فريد زكريا" الذى اعترف بدوره علانية بانتحاله مقاطع من طرح لكاتبة وأكاديمية أمريكية استمرت مع سلسلة من العقوبات السريعة، على رغم اعتذاره عما فعله حينئذ، وهى محنة تظهر الفارق الجوهرى بين خطيئة السطو على أفكار الآخرين أو كلماتهم وعباراتهم دون أى إشارة لذلك وبين التفاعل والبحث الحميد الذى يتيح إمكان عرض هذه الأفكار والكلمات مع الإشارة الصريحة والواضحة لصاحب الأفكار والكلمات. فريد زكريا، الهندى الأصل، يوصف بأنه من أشهر الكتاب والصحفيين الأمريكيين، ودرس فى جامعتى يال وهارفارد، وهو مؤلف لكتب عدة حققت مبيعات عالية، كما أنه كاتب ومحلل ومعلق "مطلوب" فى الصحافة المكتوبة والشبكات التلفزيونية. كانت مجلة "تايم" الأمريكية المرموقة أعلنت فى خضم هذه القضية عن تعليق مقالات فريد زكريا بعد كشف سرقته لعمل كاتبة أخرى بأحد مقالاته، فيما حذت شبكة "سى إن إن" التلفزيونية حذو التايم وقررت تعليق برنامجه الأسبوعى. بدأت القصة – حسبما ذكرت صحيفة نيويورك تايمز - من خلال موقع "نيوز باسترز" الإلكترونى الذى رصد تشابهات كبيرة بين مقال لفريد زكريا ومقال لكاتبة وأكاديمية أمريكية فيما لم تقصر المواقع المنتشرة على شبكة الإنترنت فى نقل ما ذكره هذا الموقع الإخبارى لتتحول القصة لفضيحة مدوية عبر الشبكة العنكبوتية. إذا كانت شبكة الانترنت بما تحتويه من معلومات غزيرة وسريعة تسهل الانتحال، كما يرى البعض، فإنها فى الوقت ذاته تسهل فضح القائمين بالانتحال. اعتبر الكاتب والناقد الأمريكى ديفيد زوارويك أن "فريد زكريا يستحق العقاب الحاسم والسريع، لأن الانتحال بات خطيئة مهلكة فى عالم الصحافة، وكأنها لعنة لا خلاص منها"، فيما اتخذ هذا الكاتب والناقد موقفاً صارماً حيال زكريا بقوله: "لا يعنينى إن كان الشخص الذى قام بالانتحال ذكياً أو غبياً وإنما ما يهمنى ضرورة عقاب كل من يسطو على أفكار الآخرين أو كلماتهم". قال فريد زكريا: "بعض الصحفيين أشاروا إلى أوجه تشابه بين أجزاء من مقال لى حول قضية السيطرة على السلاح الذى نشر فى مجلة تايم وبين أجزاء من مقال لأستاذة التاريخ بجامعة هارفارد "جيل ليبور" كانت مجلة ذى نيويوركر قد نشرتها فى شهر أبريل المنصرم". أضاف زكريا: "كانوا على حق فقد ارتكبت خطأً جسيماً وأتحمل وحدى المسؤولية كاملة، واعتذر لأستاذة التاريخ جيل ليبور.. اعتذر عن هذا الخطأ لمجلة تايم كما اعتذر لقرائى". كانت متحدثة باسم مجلة تايم قد اعتبرت أن ما حدث من فريد زكريا "يعد انتهاكاً للمعايير الخاصة بكتاب الأعمدة فى المجلة"، موضحة أن هذه المعايير تعنى "ألا يكون ما يطرحه الكتاب فى أعمدتهم واقعياً فحسب وإنما أيضاً أصيلاً وبكلمتهم وتعبيراتهم هم". إذا كان الكاتب والناقد ديفيد زوارويك قد ذهب فى سياق فضيحة زكريا إلى أنه "نظراً لعدم وجود أخلاق وقيم فى الصحافة اليوم فإن الانتحال قد استشرى "فإن قضية الانتحال فى الواقع قديمة وليست أبداً وليدة اليوم ثم أنها تشمل مجالات متعددة من بينها الموسيقى والرسائل الجامعية والأبحاث العلمية والأوراق الأكاديمية، كما شهدت وتشهد قاعات المحاكم دعاوى واتهامات بالانتحال. فى كتاب صدر بعنوان "أدونيس منتحلاً" للباحث العراقى كاظم جهاد سلسلة من الاتهامات للشاعر والكاتب السورى الأصل على أحمد سعيد الشهير "بأدونيس"، وكلها تتعلق "بالانتحال" والاقتباس والنقل الحرفى. وعلى رغم أن بعض الباحثين يعتبرون أدونيس واحداً من أكبر الشعراء العرب فإن الباحث العراقى كاظم جهاد يعتبر فى المقابل أدونيس واحداً من أكبر المنتحلين فى الثقافة العربية، وأن سرقاته الأدبية تتنوع ما بين النقل من المتصوف الشهير "النفرى" إلى الشاعر والناقد الفرنسى بودلير، فضلاً عن سارتر وديريدا وبول فاليرى والناقدة سوزان برنار. قال مؤلف الكتاب إن أدونيس وهو يأخذ عن النقاد ومنظرى اللغة الشعرية قد ذهب الى حد الانتحال الكامل، كما هو الحال فى دراسته التى نشرها بعنوان "محاولة فى تعريف الشعر الحديث"، وهى فى الواقع منقولة حرفياً عن الناقد الفرنسى البيريس. يضيف كاظم جهاد: "مع الوقت بدأت تتكشف مصادر الاستحواذ الأدونيسى على نصوص الآخرين وهو استحواذ تتضافر جميع القرائن والمعايير لتبرهن على دخوله فى باب الانتحال". بل إن اتهامات الانتحال طالت شخصيات فى قامة المفكر عبدالرحمن بن خلدون المؤرخ الشهير، الذى يوصف بأنه المؤسس الحقيقى لعلم الاجتماع، حيث سعى الدكتور محمود إسماعيل أستاذ التاريخ الإسلامى عبر دراسة مستفيضة لإثبات أن "ابن خلدون قد قام بانتحال نظريات جماعة إخوان الصفا" فى المقدمة الخلدونية الشهيرة التى تعد من أبرز أعمال هذا المفكر والمؤرخ الكبير. فى كتابه بعنوان: "نهاية أسطورة.. نظريات ابن خلدون مقتبسة من رسائل إخوان الصفا"، ثم فى كتاب آخر بعنوان: "هل انتهت أسطورة ابن خلدون؟"- بدأ الدكتور محمود إسماعيل منهمكاً فى محاولاته لإثبات أن عبدالرحمن بن خلدون مارس السطو على أفكار ونظريات جماعة إخوان الصفا وهى جماعة فكرية - فلسفية متعددة الاهتمامات ظهرت فى القرن الثالث الهجرى بالبصرة ساعية للتوفيق بين العقيدة والأفكار الفلسفية، فيما جاءت جهودها الفكرية الفلسفية الأساسية فى 52 رسالة عرفت برسائل إخوان الصفا. وإذا كان الدكتور محمود اسماعيل معنى بتصحيح التاريخ العربى الإسلامى، فالمشكلة فى هذا النوع من الاتهامات أن المدعى عليه ليس بمقدوره الدفاع عن نفسه، لأنه ببساطة غادر الحياة الدنيا منذ قرون طويلة، ثم إن اتهامات من هذا النوع لقامة كبيرة مثل ابن خلدون أثارت غبار معارك ثقافية فى المشرق والمغرب العربى. لكن هل يصل الأمر للحد الذى ذهب إليه ديفيد زوارويك وهو أن "كل من يسطو على أفكار الآخرين أو كلماتهم يتعين أن يقبل انتهاء دوره أو حياته كمصدر للخطاب الفكرى أو الأخلاقى".. على أى حال كان الحكيم المصرى القديم أمنوبى محقاً عندما قال فى تعاليم أسهمت فى بناء الضمير الإنسانى منذ فجر التاريخ: "لا تستعمل قلمك فى الباطل.. لا تغمس قلماً فى المداد لتفعل ضرراً.. ولا تؤلف لنفسك وثائق مزيفة". ترى ما رأى باسم يوسف فى كلمات ديفيد زوارويك ناهيك عن نصائح وتعاليم هذا الحكيم المصرى القديم؟!.. والسؤال الأهم: "هل تستمر لعبة الانتحال ويبقى الملف مفتوحاً أم يكون باسم آخر المنتحلين؟".