فى طفولتى كان هناك مسجد صغير قرب بيتنا، وكان أمام المسجد عجوزاً، طلابه يسمونه الشيخ نور.. كان الشيخ نور خادم المسجد وأمامه ومؤذنه. وعند كل صلاة كان الشيخ العجوز يصعد إلى أعلى مئذنة المسجد ليؤذن للصلاة، فى تلك الأيام لم تكن هناك ميكروفونات إلا فى المساجد الكبيرة، مثل السيدة زينب أو سيدنا الحسين.. ورغم أن الشيخ نور كان فى أرذل العمر، لكن صوته عند كل أذان يصل إلى أطراف الحى، فيتوافد المصلون زرافات لأداء الصلاة. ومازلت رغم تقادم العمر، أذكر الشيخ نور. وهو يؤذن الفجر بصوته الرخيم. الذى كان يسرى فى قلبى نداء ممزوجاً بالسحر يقشعر له بدنى الصغير. فأقوم من عز نومى. أتوضأ وأصلى. ثم أعود إلى فراشى. وأعاود نومى مرتاحا قرير العين! وفى أيام هذه وبالتحديد قبل عام أسود أو يزيد قليلا. أصبحت أتأسى ويملؤنى الحزن. عند كل صلاة عندما أجد فى موعد كل أذان ضجة عظيمة وأصواتاً عالية «مجعرة» يظن أصحابها أنهم يؤذنون للصلاة بينما ظنى أنهم يؤذنون ضد الصلاة! هى ظاهرة مؤلمة طفحت علينا فى أيام الإخوان لا أعادها الله. هذه الميكروفونات المزعجة التى تسلحت بها مئات الآلاف من الزوايا الصغيرة التى انتشرت فى أنحاء مصر. ولا بأس من أن يكون لدينا مكان للصلاة. فى كل شارع وحى أن بيوت الله واحة وراحة، وفيها يتعبد الناس ويتقربون إلى خالقهم. لكن معظم هذه الزوايا صغيرة لا تتسع لأكثر من عشرة مصلين أو خمسة عشر بالكثير. لكن كل زواية منها مزودة بميكروفون.. يرفعه المؤذن عند كل صلاة إلى أعلى صوت. والزوايا قريبة من بعضها. فى شارعنا اليوم ثلاث زوايا. وكلها ترفع ميكروفوناتها إلى أعلى صوت، وكل أذان فى موعد واحد. فتكون النتيجة أن تتداخل أصوات المؤذنين العالية وتختلط أصوات المؤذنين. فلا تفهم كلمة واحدة. والصوت العالى، لا خشوع فيه، وتظن أن المؤذن يؤذن فى صحراء مترامية الأطراف بحثا عمن يأتى للصلاة! أما الأنكى فهو أن معظم هؤلاء ليسوا من أصحاب الأصوات الحلوة أو حتى المقبولة، بل أغلبهم أصواتهم قبيحة ومنفرة، وأغلبهم لم يتعلم أو يتدرب على رفع الأذان. كان محمد عبدالوهاب فى شبابه يؤذن فى مسجد الشعرانى. ونحن لا نريد محمد عبدالوهاب فى هذه الزوايا، لكن أقله أن يكون صوت المؤذن معقولا. أن يؤذن ولا يصرخ. أن الأذان دعوة للقاء الله عند كل صلاة والدعوة لمثل هذا اللقاء الجميل لابد أن تكون جميلة! كان سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام يطلب من بلال رضى الله عنه أن يرفع الأذان. لما فى صوته من حلاوة وطلاوة، ويقول أرحنا بها يا بلال. بل وكان يرفض طلب بعض الصحابة رفع الأذان. ويسأل عن بلال. وفى وقت من الأوقات اقترحت وزارة الأوقاف توحيد الأذان فى مثل هذه الزوايا والمساجد الصغيرة. على أن تشغل ميكروفوناتها على أذان إذاعة القرآن الكريم، وتسجيلات الأذان بأصوات كبار مقرئينا مثل الشيخ محمد رفعت وغيره وما أكثرهم وأعظمهم. لكن السادة أئمة هذه الزوايا والمساجد. لا يعترفون بهؤلاء العظماء، ويفرضون أصواتهم القبيحة بالعافية على عباد الله! ولأن أحدا لا يسأل ولا يراقب ولا يجرؤ على الاعتراض أو حتى النصح. فإن هؤلاء الائمة الفتوات. زادوا الطين بلة، وأصبحوا لا يكتفون برفع الأذان بأعلى أصوات الميكروفونات. بل ويقيمون الصلاة كاملة فى الميكروفون. وأيضا تتداخل أصواتهم وتختلط. فيصبح الأمر لا صلاة ولا خشوع. ولا كلمة واحدة مفهومة! هل أصبحنا نعيش عصر إسلام الميكروفون؟! ومن يضع حدا لهذه الاساءة للإسلام؟ الله يرحمك يا شيخ نور!