بسبب فترة اعتكاف دامت عدة أشهر بمسجد قريب من بيته حزنا على وفاة زوجته، حظى محمد صالح بلقب «شيخ» فى منطقة سكنه بعين شمس. بعدها وجد الشيخ صالح فى المسجد حياة أخرى. تفرغ تماما لخدمة المسجد متطوعا. حفظ القران فى هذه الفترة وقرأ كتبا كثيرة فى الدين والفقه. يقول: «أنا كنت فى غاية الحزن وفى حالة يرثى لها بعد وفاة زوجتى، خصوصا أن أولادى أحدهما يعيش فى السعودية والآخر فى دبى، ولم يعد لى من يهون على الأمور بعد خروجى على المعاش، ولكن عندما جئت إلى المسجد هنا وكنت أكبر المترددين من الأهالى سنا، ففوض أمر الأذان لى خصوصا أننى كنت مواظبا ومتفرغا ولا عمل آخر لدى». يعيش الشيخ صالح الآن حياة اجتماعية موازية داخل الجامع. له أصدقاء يلتقيهم، يشكون له مشكلاتهم، ويشكو إليهم، ويتلمسون فيما بينهم الصبر والسلوى. بعد أن ظن أن حياته قد خوت وانتهت إلى وحدة وفراغ، هو الآن يروح ويجىء خمس مرات إلى حياة وناس ويشعر بالامتلاء. «الناس هنا كلها الحمد لله تحترمنى، حتى من لا يعرفنى يكفى أن يدخل الجامع ويرانى أؤذن فيقول لى بارك الله فيك. عندما تؤذن يسكت الجميع إجلالا». بدون سبب واضح يقارن فجأة الشيخ صالح بين وظفيته قديما فى السجل المدنى، وتطوعه الآن كمؤذن للجامع: «سبحان الله! فى المصلحة ترفع صوتك وتحدث ضوضاء وسط زحام الناس ولا يكاد يشعر بك أحد. لكن هنا عندما أمسك بالميكروفون إعلانا للصلاة فأجد صمتا وهدوءا وسكينة». يتحدث عن الأذان بخشوع شديد قائلا: «الأذان ليس فقط كما يعتقد البعض نداء للصلاة فقط. وإنما كان الأذان والمآذن طوال الوقت رمزا ودعاية وإعلانا عن كيان المسجد ومكانته». كان جد الشيخ صالح يعمل مقرئا ومؤذنا بمسجد الفتح بالمنوفية وكان يصطحبه وهو صغير للصلاة معه: «كان لجدى صوتا جهورى، ولم تكن هناك مكبرات صوت. وكان المسجد صغيرا بلا مئذنة، فكان جدى يقف على قمة المسجد ويعلو صوته بالتكبير فتسمعه القرية كلها». ومثل المساجد والزوايا البسيطة الموجودة ببعض قرى الريف إلى اليوم، لم يعرف المسجد النبوى ولا المساجد التى شيدت فى العصور الأولى للإسلام بناء المئذنة بشكله المميز المرتفع. كان بناء المسجد بسيطا من طابق واحد، وأحيانا كان سقفه من الخوص. وكان المؤذن يصعد على سطح المسجد أو أسطح المبانى المجاورة لرفع الأذان. ومع مرور الزمن والتوسع فى الفتوحات الإسلامية باتت المئذنة رمزا للدولة الإسلامية، وقطاعا قائما بذاته من فنون العمارة الإسلامية، ووُجهت لها عناية كبيرة فى التصميم والتنفيذ، وكان يبنى بداخلها سلم حلزونى فيصعد المؤذن إلى شرفتها، حيث يقف المؤذن وينادى للصلوات. ومنذ دخل التيار الكهربائى إلى المساجد، انحصر دور المئذنة فى حمل مكبرات الصوت، والآن وقد أصبح الأذان إلكترونيا ينطلق صوته بزر، فإن دور المؤذن سينحصر هو الآخر فى الضغط على زر استقبال الأذان. «الأذان شرف وفخر لكل من يقوم به. يقول الله تعالى: (وأذّنْ فى الناس بالحجِّ يأتُوكَ رِجالاً...) ويقول: (وأذان من الله ورسولهِ إلى الناس يَومَ الحجِّ الأكبر...) لذلك فإن منعها عن الناس وقصرها على ثلاثين مؤذنا وتنحية الباقين يضر بالكثيرين» بهذه الجملة يعبر الشيخ صالح وهو الشيخ المتطوع لخدمة المسجد والمتحرر من التزامه أمام الوزارة عن شعوره بالأسف إزاء القرار لكنه يعود ويقول: «ولكن أولى الأمر أعلم منا بمصالح الدولة».