بقلم فضيلة الإمام علي جمعة مفتي الجمهورية 1- إن الفتوي فرض علي الكفاية، إذ لابد للمسلمين ممن يبين لهم أحكام دينهم فيما يقع لهم، ولا يحسن ذلك كل أحد، فوجب أن يقوم به من لديه القدرة، ولم تكن فرض عين لأنها تقتضي تحصيل علوم جمة، فلو كلفها كل واحد لأفضي إلي تعطيل أعمال الناس ومصالحهم، لانصرافهم إلي تحصيل علوم بخصوصها، وانصرافهم عن غيرها من العلوم النافعة، شأنها في ذلك شأن باقي فروض الكفايات. 2- ودليل فرضيتها قول الله تبارك وتعالي: » وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون« »آل عمران: 187« وقول النبي صلي الله عليهم وسلم: من سئل عن علم ثم كتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار« »أخرجه الإمام أحمد في مسنده«. 3- قال الإمام النووي: ومن فروض الكفاية القيام بإقامة الحجج العلمية، وحل المشكلات في الدين، ودفع الشبه، والقيام بعلوم الشرع كالتفسير والحديث والفروع الفقهية بحيث يصلح للقضاء والإفتاء للحاجة إليهما »راجع شرح الشيخ جلال المحلي للمنهاج، ج4 ص216«. 4- فالإفتاء فرض كفاية ولا يتعين الإفتاء علي المسئول إلا بشروط منها: * الأول: أن لا يوجد في الناحية غيره ممن يتمكن من الإجابة، فإن وجد عالم آخر يمكنه الإفتاء لم يتعين علي الأول، بل له أن يحيل علي الثاني، قال عبدالرحمن بن أبي ليلي: أدركت عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم يسأل أحدهم عن المسألة، فيردها هذا إلي هذا، وهذا إلي هذا، حتي ترجع إلي الأول »المجموع، للإمام النووي، ج1 ص73«، وقيل: وإذا لم يحضر الاستفتاء غيره تعين عليه الجواب. * الثاني: أن يكون المسئول عالما بالحكم بالفعل، أو بالقوة القريبة من الفعل، وإلا لم يلزم تكليفه بالجواب، لما عليه من المشقة في تحصيله. * الثالث: أن لا يمنع من وجوب الجواب مانع، كأن تكون المسألة عن أمر غير واقع، أو عن أمر لا منفعة فيه للسائل، أو غير ذلك. 5- أما عن حكم الاستفتاء، فإن استفتاء السائل الذين لا يعلم حكم الحادثة واجب عليه، لوجوب العمل حسب حكم الشرع؛ ولأنه إذا أقدم علي العمل من غير علم فقد يرتكب الحرام، أو يترك في العبادة ما لابد منه. قال الإمام الغزالي:»العامي يجب عليه الاستفتاء واتباع العلماء، ثم أضاف: أن الإجماع منعقد علي أن العامي مكلف بالأحكام، وتكليفه طلب رتبة الاجتهاد محال؛ لأنه يؤدي إلي أن ينقطع الحرث والنسل وتتعطل الحرف والصنائع ويؤدي إلي خراب الدنيا لو اشتغل الناس بجملتهم بطلب العلم، وذلك يرد العلماء إلي طلب المعايش ويؤدي إلي اندراس العلم بل إهلاك العلماء وخراب العالم، وإذا استحال هذا لم يبق إلا سؤال العلماء« »راجع المستصفي، لأبي حامد الغزالي، ص 372«. 6- فإذا لم يجد المكلف من يفتيه في واقعته يسقط عنه التكليف بالعمل إذا لم يكن له به علم، لا من اجتهاد معتبر ولا من تقليد، لأنه يكون من باب التكليف بما لا يطاق، ولأن شرط التكليف العلم به، والقدرة هي مناط التكليف، ويكون حكمه حكم ما قبل ورود الشرع، وكمن لم تبلغه الدعوة. 7- وللإفتاء مكانة عظيمة، وكان النبي صلي الله عليه وسلم يتولي هذا المنصب في حياته، باعتبار التبليغ عن الله، وقد تولي هذه الخلافة بعد النبي صلي الله عليه وسلم أصحابه الكرام، ثم أهل العلم بعدهم، فالمفتي خليفة النبي صلي الله عليه وسلم في أداء وظيفة البيان، وشبه القرافي المفتي بالترجمان عن مراد الله تعالي، وهذه الدرجة العالية للإفتاء ينبغي ألا تدفع الناس للإقبال عليه، والإسراع في ادعاء القدرة عليه، سواء أكان ذلك بحسن نية وهي تحصيل الثواب والفضل، أم بسوء نية كالرياء والرغبة في التسلط والافتخار بين الناس، فقد ورد عن النبي صلي الله عليه وسلم قوله:»أجرؤكم علي الفتيا أجرؤكم علي النار« »أخرجه الدرامي في سننه«، وقال صلي الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:» لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها« »متفق عليه«.