قلنا بالأمس إن الفقهاء قديما تناولوا مسألتين عند مناقشة الخروج على الحاكم، الأولى: أن يكون الحاكم كافرا أو خرج عن الملة، والثانية أن يكون الحاكم ظالما، وقد اتفقوا جميعا على عدم الخروج على الحاكم الكافر والظالم إذا كان الخروج قد يسبب مفسدة أكبر من الإبقاء عليه: «فمذهب أهل السنة والجماعة أنه لا يجوز الخروج على الحاكم إلا إذا بدا منه كفر بواح، ففي الحديث الصحيح عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: دعانا النبي صلى الله عليه وسلم، فبايعناه، فقال فيما أخذ علينا: أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويُسرنا، وأثره علينا، وألا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه برهان». رواه الشيخان. ولا بد أن يثبت هذا الكفر عن طريق أهل العلم، وقيل إن الحاكم إذا ارتد أو كان كافراً، فإن جواز الخروج عليه يدور مع المصلحة وجوداً وعدماً، فإذا ترتب على الخروج عليه مفسدة أعظم من المصلحة المرجوة من إزالته، ترك الناس الخروج عليه، وكذلك العكس، وذلك بناءً على عدة قواعد شرعية بنيت عليها كثير من الأحكام الفرعية، كقاعدة «درء المفاسد مقدم على جلب المصالح» وقاعدة «يرتكب أخف الضررين» وقاعدة «تحصيل أعلى المصلحتين». وإذا كان أغلب الفقهاء قد قيدوا الخروج على الحكام الكافر والظالم بحجم المفسدة وأثرها تجنبا لوقوع مفسدة أكبر، هناك فريق آخر من الفقهاء رفض تماما فكرة الخروج على الحاكم، كان ظالما أو كافرا أو فاسدا أو فاسقا، وذلك لكى يتجنبوا الوقوع فى الفتنة، الإمام الشوكاني قال: لا يجوز الخروج على الأئمة وإن بلغوا في الظلم أي مبلغ ما أقاموا الصلاة ولم يظهر منهم الكفر البواح…( 4/556 )، وهو ما ذكره كذلك الآجري في الشريعة: عن حذيفة بن اليمان قال : قال رسول الله:سيكون بعدي أئمة لا يهتدون بهدي ولا يستنون بسنتي». وقال: من نزع يداً من طاعة لم يكن له يوم البعث حجة.. رواه أحمد وابن أبي عاصم في السنن .قال أبو جعفر الطحاوي: ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمرنا وإن جاروا ولا ندعوا عليهم ولا ننزع يداً من طاعتهم ونرى طاعتهم من طاعة الله مالم يأمرونا بمعصية وندعوا لهم بالصلاح والعافية، قال ابن رجب الحنبلي: وأما النصيحة لأئمة المسلمين فحب صلاحهم ورشدهم وعدلهم ووجوب إعزازهم في طاعة الله، ومعاونتهم على الحق وتذكيرهم به وتنبيههم في رفق ولطف ولين ومجانية الوثوق عليهم ،والدعاء لهم بالتوفيق وحث الأخيار على ذلك (جامع العلوم والحكم1/22). وقد كان الحسن البصري والفضيل بن عياض وأحمد بن حنبل يقولون: لو كان لنا دعوة مستجابة لدعونا بها للأمام (، وقال الإمام ابن تيميه: المشهور من مذهب أهل السنة أنهم لا يرون الخروج على الأئمة وقتالهم بالسيف وإن كان فيهم ظلم ( منهاج السنة النبوية 3/390)، وقد قال الإمام الصنعاني: من خرج على إمام اجتمعت عليه كلمة المسلمين فإنه قد استحق القتل لإدخاله الضرر على عباده وظاهره سواء كان عادلاً أو جائراً (انظر حاشية ضوء النهار 4/2487-2488)، وقال الإمام النووي: لا يجوز الخروج على الخلفاء بمجرد الظلم أو الفسق ما لم يغيروا شيئاً من قواعد الإسلام(شرح صحيح مسلم 12/195) وهذا لا يعنى أن جميع الفقهاء قد أفتوا بعدم الخروج بالسيف على الحاكم فالثابت أن الأوزاعي قال عن أبى حنيفة النعمانى: احتملنا أبا حنيفة علي كل شيء حتي جاءنا بالسيف يعني قتال الظلمة، وقد وقف أبو حنيفة إلي جانب الإمام زيد بن علي عند خروجه علي بني أمية، وساعد زيداً علي خروجه بالمال ونصح الناس بالوقوف إلي جانبه، وكان نفس الموقف مع محمد بن عبدالله الملقب بالنفس الزكية وأخيه إبراهيم وهما من أولاد الحسين بن علي في الثورة الثانية سنة 145ه حيث أفتي أن الخروج معه أفضل من الحج النفل خمسين أو سبعين مرة، وحين خرج عبدالرحمن بن الأشعث علي الدولة الأموية في زمن ولاية الحجاج وقف إلي جانبه أكثر الفقهاء أمثال (سعيد بن جبير والشعبي وابن أبي ليلي وابن كثير وأن فرقة عسكرية من القراء وهم العلماء وقفت إلي جانب صف بن الأشعث ضد الحجاج، ولم يقل أحد من العلماء إن خروجه هذا غير جائز)، (وقد قال بالخروج عند توافر شروطه التامة الإمام الشافعي والشعبي والإمام الغزالي والقاضي عياض وابن حزم والشهرستاني والجويني والمودودي وابن الأمير الصنعاني والشوكاني والجصاص وغيرهم.