فيما عدا المتبحرين فى العلوم الدينية، لا يعرف جمهور المسلمين من الأئمة سوى أربعة: هم أبو حنيفة ومالك بن أنس والشافعى وابن حنبل. غير أنهم فى واقع الأمر يزيدون كثيرا عن التسعة الذين اختارهم الأديب عبدالرحمن الشرقاوى ليعيد كتابة سيرتهم بقلمه الرشيق، أو كما يكتب هو فى مقدمة كتابه الشائق «أئمة الفقه التسعة» الذى أعادت «الشروق» طبعه ضمن أعمال الشرقاوى الكاملة قائلا: «وهؤلاء الذين كتبت عنهم، هم الذين انفعلت بحياتهم وفكرهم واقتحاماتهم الجسور، ونضالهم فى سبيل حياة أفضل، وبمواقفهم، فهؤلاء إذن ليسوا هم كل أئمة الفقه الإسلامى». وهذه الكوكبة التى اصطفاها عبدالرحمن الشرقاوى (1920 1987) الذى عرف كشاعر وكاتب مسرحى ومفكر إسلامى وروائى صاحب رائعة «الأرض» تثير الاهتمام ليس فقط لأن صاحبها صاحب كتابة أدبية مميزة، ولكن أيضا لرؤيته كمفكر يسارى يقتفى أثر الفكر الاشتراكى فى الإسلام ويتعقب رؤى الأئمة الكبار فى قضايا القضاء والقدر أو فى العلاقة بالسلطان وغيرها من الأمور التى اختلفوا فيها على مر العصورو لاتزال معاصرة حتى يومنا هذا. ذهب صاحب «الحسين ثائرا» ليفتش فى سيرة الفرسان الأوائل فى عصر الفتوحات الإسلامية الذين نشروا تعاليم الدين الجديد ولم يكونوا مجرد فاتحين بل «محررين ودعاة ورعين»، برعوا فى استنباط الأحكام الشرعية لمستحدثات الأمور. فأراد الشرقاوى أن يقدم نماذج نشأت من أهل البلاد المفتوحة من العلماء والفقهاء الذين أثرى بهم الفقه الاسلامى. ومن خلال سيرة الأئمة التسعة أفاض الشرقاوى فى سيرة من ظلمهم التاريخ منهم، أو من تم تصويره بغير صورته، أما المعروفون منهم الذين كُتب عنهم الفيض الكثير، فقد اكتفى الكاتب بالوقوف على مواقف له غير معروفة، كما غلبت روح الشرقاوى الأدبية فى عنونة الفصول، فكل إمام له نعت يخصه ويدل عليه وحده ويجعل سيرته أقرب إلى قصص الفرسان، فالإمام أبوحنيفة النعمان هو «الإمام الشهيد»، والعز عز الدين عبدالعزيز «سلطان العلماء»، والشافعى هو قاضى الشريعة و«خطيب الفقهاء»، وابن حزم هو «أديب الفقهاء»، أما الإمام جعفر الصادق، فكفاه اسمه الصادق ليكون اللقب الدال عليه. ما أشبه الليلة بالبارحة استهل الشرقاوى قائمة الأئمة التسعة بالفقيه الفارس زيد بن على زين العابدين بن الحسين بن على بن أبى طالب، الذى يروى التاريخ مآثر فروسيته وسيرته الموجعة التى انتهت نهاية مأسوية لا تبتعد كثيرا عن نهاية جده الحسين. نشأ زيد فى أجواء بطش بنى أمية وتدعيم قواعد الإمبراطورية الإسلامية، وكان يتعجب من علماء المدينة الذين يسكتون عن المنكر ولا يأمرون بالمعروف والناس فى المدينة «يتقون مواجهة الحاكم المستبد الباطش الباغى؟!»، وأراد زيد أن يتسلح بالعلم وذهب يطلب العلم فى البصرة والكوفة وسمع أن الإمام على كرّم الله وجهه يُلعن وزوجه فاطمة الزهراء رضى الله عنها على منابر المسلمين بأمر حكام الدولة. وكان ممزقا بين رغبته فى رد الظلم وأن ينهض بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وإحياء السنة وبين الصبر على الإعداد الجيد لمواجهة سلطان الأمويين حتى لا يخذلوه ويسلموه كما صنع أجدادهم مع جده الحسين. وحتى حين جاهر برأيه فى شروط الخلافة القائمة بالنسبة لزيد بن على، على الشورى والمبايعة والعدل، استشعر الخليفة هشام بن عبدالملك الخطر الذى يحيط به إذا ما وجه الإمام علمه وقوة حجته فى الأمور السياسي وأشعل الثورة ضده. فما كان من الخليفة إلا أن ضاعف من المكائد والدسائس ولجأ لأنواع البطش المختلفة ليحول دون مبايعة الإمام الجديد، فحبس بعض أتباعه الصادقين فى المسجد الكبير، ودق عنق البعض الآخر على باب القصر. ومثلما بايع الحسين ثمانون ألفا لم يثبت منهم سوى ثلاثمائة، بايع زيد أربعون ألفا لم يثبت منهم سوى مائتين. بعد موت زيد ببسالة، قال الإمام أبوحنيفة عن ثورة زيد: «لقد ضاهى خروج الرسول عليه الصلاة والسلام يوم بدر». السياسة التى لا مفر منها أما الأمام جعفر بن محمد الباقر، فيعرض الشرقاوى سيرته العطرة، حيث اجتمع الناس على حبه، حفظ القرآن والسنة من مصادرها عن آل البيت، فأتقن دراسة الحديث وفهمه، مما أتاح له «أن يكشف ما وضعه المزيفون تزلفا للحاكمين أو خدمة لهذا الطرف أو ذاك من أطراف الصراع السياسى». ويذكر الشرقاوى أنه نشر من الأحاديث ما حاول الحكام المستبدون إخفاءه، لأنه يزلزل أركان الاستبداد. فقد كان حكام ذلك الزمان يجهدون فى إخفاء ما رواه على بن أبى طالب من السنة. وبعد أن اجتمع الناس يطالبونه أن يبايعوه خليفة المسلمين كان من أقواله «من طلب الرياسة هلك». ويفيض عبدالرحمن الشرقاوى فى سيرة أحمد بن حنبل الذى سماه المفترى عليه، ليوضح الصورة التى عرف بها وحقيقة مواقفه. فيفرد عبر 70 صفحة صفات أحمد بن حنبل ونبله ومواقفه، وكيف عانى من شظف العيش، وحرص ألا يأكل إلا من عمل يده، ولاقى الأهوال فى رحلاته لطلب العلم وعمل حمالا وعمل نسّاخا وكان يلتمس الحديث عند شيوخ البصرة وعلماء اليمن وإلى الحجاز، حيث سمع الشافعى وقال عنه: «لإن فاتنا علم هذا الرجل، فلن نعوضه إلى يوم القيامة». أنفق حياته بحثا عن الأحاديث الصحاح حتى إذا لامه أحد صحبه لكثرة ترحاله، قال: «مع المحبرة إلى المقبرة». ورغم بعده عن السياسة إلى حد كبير واهتمامه بالحديث وسيرة السلف الصالح، فقد هاجمه معاصروه حول رأيه فى الخلافة. «ذلك أن أحمد كان يرى وجوب طاعة الخليفة ولو كان فاجرا، لأن طاعة الفاجر عنده خير من الفتنة التى لا تصيب الذين ظلموا خاصة، بل تصيب معهم الأبرياء، وتضعف الدولة فيطمع فيها أعداء الاسلام». حيث يذكر الشرقاوى قول أحمد بن حنبل الذى يؤكد فيه أن: «السمع والطاعة للأئمة وأمير المؤمنين البر والفاجر، ومن اجتمع عليه الناس ورضوا به، ومن غلبهم بالسيف، وسُمى أمير المؤمنين، والغزو ماض مع الأمراء إلى يوم القيامة البر والفاجر، ومن خرج على إمام من أئمة المسلمين (فقد شق عصا المسلمين..). واتهمه مفكرو عصره بالدعوة إلى الاذعان والرضا بالظلم والمعصية، بل واعتبر بعضهم أنه ينسب إلى الرسول والصحابة ما ليس لهم، بما أن الرسول (ص) يأمر بأنه لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق. غير أن أحمد رد عليهم كما يذكر الشرقاوى بأن خير التابعين عاشوا تحت مظالم الأمويين، فلم يدعوا الرعية إلى الخروج عليهم.. وهو إنما يدعو إلى الطاعة مع استمرار النصيحة، لا إلى السكوت عن المظالم.. وإذا كانت طاعة الحاكم ظلما فالخروج عليه ظلم أفدح، لأن الخروج مجلبة للفتنة. عدول ابن حنبل عن رأيه يروى الشرقاوى سيرة الأئمة بوضع تجربة كل إمام فى سياقها التاريخى، مما يسهل على القارئ استيعاب جوانب الشخصية وفهم مواقفها. فأحمد بن حنبل ليس مجرد شيخ مسالم يفتى بطاعة الخليفة، لكنه كان فى هذه السن مقتنعا بوجوب نصيحة السلطان الجائر بدلا من الثورة عليه لما فى الثورة من تعريض الدين نفسه للصراعات والفتن. ويوضح أن هذا الرأى لم ينل من أصالة ابن حنبل حتى وإن لاقى معارضة على هذا الرأى، خاصة من الشيعة، بل إن أستاذه الإمام الشافعى الذى تأثر أحمد برأيه كثيرا قد أثنى على علمه وخلقه وقال عنه: «رأيت فى بغداد شابا إذا قال.. قال الناس كلهم «صدقت»!!» قيل من هو؟، قال: «أحمد بن حنبل». غيَّر أنه مع مرور الأيام وصقل التجربة، غير ابن حنبل من موقفه تجاه طاعة الخليفة، إذ تأثر أيما تأثر من قصة سمعها عن شيخه عبدالله بن المبارك ظلت تضنيه إلى آخر عمره، حيث رأى الشيخ فى طريقه إلى الحج فتاة اضطرها الجوع إلى الأكل من الميتة فى مزبلة على الطريق، بعد أن ظلم الخليفة أبايها وأخذ ماله وقتله. فبدأت تساؤلاته اللا نهائية كما يكتب الشرقاوى «أيطاع خليفة يظلم رجلا فيقتله ويستولى على ماله ويترك أبناءه جياعا ينقبون فى المزابل عن الطعام، فلا يجدون إلا الميتة؟! يا حسرتا على العباد».