وحده ذلك الصوت الذى استطاع إطفاء جذوة برد ذلك اليوم من أيام يناير، ربما لم تكن الساعة لتقترب من الحادية عشرة، إلا أن البرد بكفره وصلابة قلبه قد أرغم جميع أهل الشارع على السكون، أتى الصوت متسربا رويدا باديا من دحديرة شديدة عند مطلع السكة الجديدة وحتى عمق الشارع الذى يسكن فيه الولى الصالح «سيدى مرزوق» إذ يتبع فى حيزه الجغرافى دائرة أول بمدينتى طنطا. وهو أيضا ذلك الصوت الذى أرغم من أسكنهم البرد للخروج محاولين تكشف الصوت الذى تحول إلى نوبة من الصراخ الهستيرى لثلاث من الفتيات ثم ترجم الصوت للغة مبهمة، ومع فتح النوافذ لتكشف صراخ البنات اللائي تبدت عوراتهن أثناء الركض بدأت جمل الاستغاثة فى الوضوح: «الحقونا يا عالم والنبى الظابط محمد العسال ماسك أمى قاعد يضرب فيها وأمى هتموت».. ربما قادتنى خطوتى أثناء انتهائى من عملى والسير بمدخل الشارع للالتقاء بالفتيات التى ربما وجدن فى الصحفى الذى يكتب عنهن أملا فى استغاثة تجدى. وما إن وصلت إلى منزل الفتيات إلا وقد خرجت كل نسوة شارعنا «لتواصل ندبها وعويلها»، بينما أنا أسير وسط كل هذا النواح البشرى محاولا تكشف الأمر، فتلتقط أذنى جملة «العيال صوروا الضابط على الموبايل.. العسال فرم الولية ونازل فيها ضرب بإيده ومعاه كابتن هانى عيسى». انتصب المشهد بكل بؤسه ومأساويته ليلة الاحتفال بعيد الشرطة وما يحمله من مضمون تاريخى كون الشرطة والشعب فى خدمة الوطن، وباءت محاولتى للاستفسار عن المشهد عابسة كون الضابط العسال كان مشغولا بمباراة الملاكمة مع سيدة تجاوزت الأربعين. ومع صراخ الفتيات والسيدة انضمت قوافل من نسوة الشارع المجاور لتشهد بطولة الضابط الشاب داخل حلبة الصراع مع امرأة. وبات ما يدور داخل ذهنى هو ماذا لو تسربت إحدى لقطات حلبة المصارعة التى أدى بطولتها الضابط الشاب مع تلك السيدة لإحدى القنوات المعادية والتى تنهش فى لحم الوطن، ولما تخير هذا الضابط يوم الاحتفال بعيد الشرطة ليفعل فعلته؟!.. دائماً الوطن هو من سيدفع الضريبة، ولا أعلم هل استمع الضابط الشاب إلى خطاب رئيس الجمهورية التى ينتمى إليها أثناء تساؤل أحد الصحفيين الأجانب حول ملف حقوق الإنسان داخل مصر؟!.. أعتقد أن العسال بك بفعلته وما تم التقاطه من صور من أهل الحى سيكون أكبر المخيبين للردود. وهو أمر السكوت عنه يصبح بمثابة الخيانة العظمى للوطن وممارسة التشويه عن عمد لصورة رجل الشرطة الذى ينحاز للمروءة لا لملاكمة سيدة أو ربما يخرج كاتب أجنبى ليتهم أبناءنا ورجالنا بأن لديهم انحرافات سيكولوجية تتضمن سلوكاً سادياً أو سيكوباتياً فى معالجة الأمور. الخطاب الأخير لرئيس الجمهورية أن الرئيس عبدالفتاح السيسى يريد النهوض بذلك الوطن وأن الفقراء منه سيعذرون إصلاحات كانت مؤجلة لهدف وحيد هو رقى حالهم فيما سيأتى من أيام، بات حلم الوطن الجديد هوية تبناها الجميع، لكن يبدو أن الضابط الشاب أراد أن يخيب تلك الأحلام بفعلته لتعود دعاوى نسوة الشارع التى ترددت «يا ظلمة منكم لله». ولا أعلم هل فعل ذلك عن عمد أم لا ليعلن ذلك الضابط الشاب بفعلته أنه ضد النظام وضد خطاب الرئيس وأن له قانونه الخاص الذى يطبقه. لا أحد منا يعترض على تطبيق القانون، لا أحد يطلب التهاون مع الخارجين على القانون، لا أحد يرغب أن تصبح البلطجة وممارسة الإتاوة متواجدة، لكن طالما كان هناك قانون حقيقى يطبق، ما أدهشنى أن الضابط اقتاد السيدة ثم صرفها، وقد تساءلت: «كيف له بعد هذه الجولات المتكررة داخل حلبة الملاكمة أن يترك السيدة التى ظن الجميع أنها قتلت قتيل؟.. وبات التساؤل الشعبى لدى أذهان العوام: «هو ضربها ليه ووورم وشها؟.. وسابها ليه؟»، لتظل هناك صورة واحدة وإجابة غير قابلة للتشكيك أن المجنى عليه الحقيقى هو مشهد الوطن يوم الاحتفال بعيد الشرطة.. ومشهد الشرطة فى عيون صغار الحى الفقراء.. السيدة أخذت العلقة ونامت فى بيتها.. ولا أحد يعلم.. فقط كان الضابط ضد النظام وضد الخطاب الرئاسى وضد أى شيء، ولا أعرف هل يعلم رئيسه المباشر بأفعال ضابطه؟.. فإن كان يعلم رئيس مباحث دائرة القسم فهى مصيبة كونه يترك سمعة الوطن وصورته وخطاب رئيسه بهذا التهاون متناسياً القسم الشرطى الذى أخذه على نفسه وقت ارتدائه البدلة الميرى لحماية حقوق الناس ومن ليس لهم حول. وإن كان لا يعلم فهى مصيبة أكثر فداحة فلربما كان لديه مشغولات أخرى أهم من الوطن وصورته. إن موضوعية الطرح تقتضى من الضمير المهنى للكاتب أن يقر بالحقيقة وتناول الأمر بأكثر من زاوية رؤية، وهنا تحضرنى رؤية مشرفة ونبيلة لرجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه تمثلت فى مشهد الجنازة المهيب للضابط الشهيد أحمد الرفاعى رحمه الله، ابن مدينتى طنطا، وتساءلت وقتها بين نفسى لما تجمع كل هؤلاء الناس لتشييع جثمان الشهيد، رغم أن طبيعة ونطاق عمله لا يقتضى الاختلاط بالجمهور، وشجعنى بحثى لسؤال صديقى المهندس محمود بدران والذى كان ملازما له فترة إصابته أثناء دفاعه عن تراب هذا الوطن، واستبساله فى الميدان وقت تبادل إطلاق النار، فكان جواب صديقى بدران أن مثل هذا البطل لا يحتاج إلى منشدين للتهليل ببطولاته، كان بطلنا الشهيد رؤوفًا بالفقراء رحيمًا بهم، مدافعًا عن العرض والهوية والتراب دون انتظار كلمة شكر فعمله داخل الكواليس، هذه كانت شهادة صديقه المقرب، شهادة نحتاج جميعا ويحتاج رجالات الوطن الاستفادة والتعلم منها.. وكذا تكون الصورة كنموذج يحتذى به. اقتضى شرف الحرف وحرمة الكلمة أن يتناول مقالى تلك الرؤية بهدف واحد وحيد هو تقويم الخطأ من أجل البناء مخافة السماح لخفافيش الظلام أو معاول الهدم أن ترتكز على مثال يشوه ذلك الوطن ويفسد علاقة بين الشعب وشرطته.