«لكل داء دواء».. هكذا يقولون، ولكن اذا هاجمتك الانفلونزا مثلا، وتحاملت علي نفسك وحملتك قدماك الي اقرب صيدلية ستجد في انتظارك عبارة أشد ألما من صداع رأسك ومن نخر عظامك ومن التهاب انفك ومن التهاب رئتيك,.. «الدواء ناقص».. هكذا سيقول لك الصيدلي.. فإذا رق لحالك سينصحك باتباع الوصفات القديمة من الأعشاب والثمار المغلية, لتذيب بمرارتها ألم المرض وألم البحث عن دوائه. والكارثة الضائعة حاليا وسط زئير الثوار «وبلادة» أهل الحكم هي ان المرضي يعانون حاليا - باعتراف وزارة الصحة - من اختفاء 89 صنف دواء علي رأسها أدوية الكحة وحساسية الأطفال فلا يكاد يوجد منها صنف واحد بالسوق المصري.. أيضا مجموعات كبيرة من المضادات الحيوية وبدائلها غائبة.. وجميع الفوارات الخاصة بحموضة المعدة.. وجميع الأصناف التي تحتوي على مادة الباراسيتامول.. و10 أصناف لا بدائل لها، في مقدمتها اللبن المدعم والأنسولين.. وكل الحقن الشرجية لم يعد لها وجود في الصيدليات.. حتي أقراص منع الحمل المدعومة اختفت.. كيف حدث هذا.. ولماذا تركت الحكومة ملايين المرضي يواجهون الموت بسبب عدم وجود دواء. أمام إحدى صيدليات شارع بورسعيد استوقفتني حيرتها وحزنها البادي علي قسمات وجهها.. اسمها «سميرة على» وتعمل موظفة ولكنها علي حد قولها «واخده إجازة يومين».. لماذا؟ من أجل البحث عن اللبن المدعم لطفلي مازن.. هكذا قالت.. حزنها وضيقها جعلاها تتحدث معي دون أن أطلب منها وكأنها كانت تبحث عمن تشكو له همها.. قالت: «ابني لا يكف عن البكاء من الجوع.. طفت علي 10 صيدليات أو يزيد. وجميعها لم أجد فيها اللبن المدعم ونصحوني أن أذهب إلى مخازن خاصة تحتكر بيع البن المدعم ب 17 جنيهاً (سعره الذي حددته الدولة 3 جنيهات) و«ده إذا لقيتيه», فاذا لم اجد فليس أمامي سوي شراء اللبن المستورد من الخارج الذي قفز سعره في الفترة الأخيرة بنسبة 10% وتراوحت أسعار العبوة الواحدة بين 50 جنيها و80 جنيها وهو مبلغ فوق قدراتي, خاصة أن ابني يحتاج لأكثر من علبتين فى الأسبوع حيث إن الواحدة وزنها الطبيعى 450 جراماً فهل من الطبيعى أن يكلفني اللبن الذى يتناوله رضيعي حوالى 130 جنيهاً أسبوعياً». اختفاء لبن الاطفال المدعم نذير خطر كبير خاصة أن وزارة الصحة كانت قد أصدرت قراراً بتوزيع علبتين من اللبن المدعم «ليبتوملك» أو «بايوميل 1» على كل أم بموجب شهادة ميلاد طفلها وبسعر ثابت 3 جنيه للعلبة ومن خلال مراكز التأمين الصحى بمختلف محافظات مصر, فإذا كانت الأزمة في اللبن الذي تعهدت الحكومة بتوزيعه علي من يستحقه قد وصل الي هذا الحد فلنا أن نتخيل الحال في أدوية أخري كثيرة متروكة للعرض والطلب. وفى إحدى صيدليات حى السيدة زينب كان الرد العملي لكل مخاوفي.. حيث كانت هناك صيدلانية تقف داخل صيدلية كبيرة لا لتقديم الأدوية التي يطلبونها ولكن لكي تعتذر للمرضى عن عدم وجود الأدوية التى يطلبونها وتقترح عليهم بعض البدائل.. اسمها د. إيمان سعيد.. سألتها: إلي هذا الحد وصل نقص الادوية؟.. فقالت: «سوق الدواء يشهد نقصاً شديداً منذ حوالي شهر، خاصة الأنواع الرخيصة التي يستهلكها الأفراد كثيرا وفي مقدمتها أدوية البرد والمضادات الحيوية وقطرات الأنف والعين». وأضافت: الصيدليات الآن تسحب من مخزونها ما تستطيع إخراجه بكميات قليلة, فمثلاً قطرة البروزلين التى دائماً ما تكون متوفرة بشكل منتظم فجأة انقطعت وأصبحت تصل إلى الصيدلية كميات قليلة منها ولذلك «بنبيعها لزبون الصيدلية», وبالرغم من وجود البديل فإن الجميع يطلب «البروزلين» لأن سعرها 3 جنيهات فى متناول الجميع أما أقل بديل لها وصل سعره إلى 20 جنيهاً. تركت صيدليات السيدة زينب وطفت علي عدد من صيدليات شبرا فوجدتها جميعا تشكو من نقص كبير في أدوية القلب وأمراض الصدر, فعقار «داى نايترا» لا وجود له رغم أهميته الكبيرة لمرضى الصدر فعدم توفره يتسبب في اصابة مريض الصدر بالذبحة الصدرية والموت فى الحال, أما أدوية البرد فبالرغم من وجود نقص فيها كال «فلوريست» و«كوميتركس» فإنها ليست مؤثرة, لوجود البديل الذى يعوضها. وأكد لي عدد من الصيادلة أن أطباء كثيرين رغم علمهم بالنقص فى نوع ما من الأدوية فإنهم يصرون على كتابته فى روشتات المرضى.. وسألتهم عن السر في ذلك فقالوا: ابحث عن البيزنس مع شركات الدواء. وفي احدي صيدليات الدقي أكد الدكتور عمرو أبو كرم وجود نقص في أدوية الكحة وحساسية الأطفال ومجموعة كبيرة من المضادات الحيوية وبدائلها والأصناف التى تحتوى على «البارسيتامول» وأدوية العمليات الجراحية والتخدير الموضعى. وأضاف: وزارة الصحة أصدرت قائمة كاملة بالأدوية الناقصة وعددها 89 صنف دواء والآن وصلت نسبة الأدوية التى يندر وصولها للصيدلية إلى أكثر من 50% بالرغم من أهميتها بدرجة كبيرة للمرضى والمستشفيات التى تستهلك كميات كبيرة منها. الأنسولين وكما أن هناك أزمة كبيرة في ألبان الأطفال المدعمة هناك أزمة مماثلة في الأنسولين وهو ما أرجعه الدكتور مؤنس حلمى- سكرتير عام نقابة الصيادلة الي ضعف الدعم المخصص لهذه المنتجات.. وقال: مصر دولة تفتقر للقدرة على تصنيع أنسولين وألبان اطفال تضاهى مثيلاتها من المستورد من الخارج, لذلك نضطر لاستيرادها بأسعار عالية, فعل سبيل المثال فى فترة وجيزة لم تتجاوز العام ونص العام, ارتفع سعر لبن الأطفال المدعم من 3 جنيهات للعلبة الواحدة إلى 17 جنيهاً, مما جعل الشركات الخاصة تتمادى فى استيراد الألبان ذات الأسعار المرتفعة, والتى يزداد سعرها الآن على 40 جنيهاً, وهو ما يصعب توفيره بالنسبة للأسر ذات الدخول المنخفضة. وأضاف: الشركة المصرية هى الشركة الوحيدة المخول لها استيراد الانسولين ولبن الأطفال المدعم, وكثيراً ما تتعثر فى استيراده بسبب ضعف الدعم المخصص لها من وزارة الصحة, وبالرغم من أهمية المنتجين للأطفال ومرضى السكر الذين يشكلون شريحة كبيرة من مستخدمى الدواء في مصر, فإن هذه الأزمة ستظل مشكلة أزلية ما لم يتم على الأقل مضاعفة الدعم عليهما, وتوفيرهما بشكل يكفى احتياجات السوق المصرية. وأكد سكرتير عام نقابة الصيادلة, أن السبب الرئيسي وراء نقص عدد كبير من الأدوية هو الصراع بين عدد من شركات الأدوية ووزارة الصحة.. وقال: الأزمة كلها تكمن فى تسعيرة الدواء المرتبطة بأسعار الخامات على المستوى العالمى, فشركات الأدوية الخاصة أيضاً تعانى مؤخراً من الارتفاع الكبير فى أسعار المواد الخام مما يجعلها تضغط على وزارة الصحة للسماح لها بزيادة تسعيرة الدواء ولو بنسبة قليلة, حتى تعينها على تحقيق نسبة ربحية من إنتاج الدواء وفى المقابل ترفض وزارة الصحة أي زيادة فى أسعار الدواء, بحجة ألا تشتعل الأسعار على المواطن البسيط, ومن هنا يأتى الرد من الشركات الخاصة بوقف إنتاج الأدوية الضرورية والهامة ووقف التشغيل داخل مصانعها, للضغط على السوق حتى تنفد الكميات المطروحة ويشتكى المستهلك من غياب العقار وهو ما يسمى بسياسة «تعطيش السوق», فتضطر وزارة الصحة للرجوع إلى الشركات الخاصة ومخاطبتها لإعادة إنتاج العقار. وهنا تملى الشركة الأسعار التى تضعها, وتوافق الوزارة على الأسعار مرغمة حتى لا تلجأ للاستيراد من الخارج المكلف بسبب ضعف الميزانية المخصصة لقطاع الأدوية فى الوزارة, وتستهلك هذه العملية ما بين 6 إلى 10 أشهر يشعر خلالها السوق بهذه الحالة من النقص العام. ولكن الأزمة الحالية يواصل - سكرتير عام نقابة الصيادلة - تبدو أكثر صعوبة وذلك بسبب الأزمة الاقتصادية الطاحنة التى تمر بها مصر وانهيار القيمة الشرائية للجنية المصرى أمام الدولار, مما يزيد من أسعار المواد الخام المستوردة من الخارج واللازمة لصناعة الدواء مما يضاعف من الأزمة الحالية. وأكدت مصادر طبية ان بعض مندوبي الأدوية «ميديكال ريب» يقومون بعملية «حرق السوق» بالاتفاق مع المخازن الخاصة حتى يحققوا نسبة مبيعات أكبر عند الشركة, حيث يقوم المندوب بجمع أكبر قدر من العقار الذى يعمل على ترويجه ويبيعها للمخازن بسعر أقل من سعرها المتداول فى السوق, وتحتفظ المخازن بالدواء لمدة قد تصل ل 6 أشهر وبعدها تقرر نشره فى السوق, بالسعر الذي تريده.