فوجئت بها تقف أمامى وكأن الأرض انشقت عنها وهى تصيح فى وجهى بصوت حاد رغم كونها عجوزا لتقول لى بلغتها الهولندية «عودى إلى بلدك أنت وأولادك وإلا الموت لكم» انتابنى الرعب للحظة، فقد كنت أتجول حينها وحدى مع طفلي بين أشجار الغابة مترامية الأطراف فى سعادة لمشهد الشمس التى كنا لا نراها طيلة العام إلا لماما، والغابة ليس بها إلا نفر قليل من أبناء البلد، وتصورت أن آخرين معها من العنصريين أو جماعات النازيين الجدد، أو أنها ستهجم علي أو على الصغيرين لإيذائنا، ولكنها كما ظهرت فجأة، هرولت مبتعدة فجأة وكأنها هى التى تخافنى، وشعرت فى تلك اللحظة بفقدانى لأهم شعور إنسانى.. «الأمان»، وحاصرتنى آلام الغربة، وقررت عندها أن أعد العدة للعودة النهائية لوطنى مصر، لكن تنفيذ القرار استغرق بعدها قرابة عقداً ونصف العقد، لظروف عملنا الصحفى أنا وزوجى بهولندا، ونسيت الحدث بعد أيام وسط انشغالاتى وواصلت حياتى بصورة طبيعية، فالعنصرية غير ملموسة إلا فى بعض الأوساط الشعبية هناك، وتختفى فى دائرة تعاملاتنا كإعلاميين. تهيمن علىَّ ذكرى هذا الحادث الآن لأقارنها بما أسمع وأرى وأعايش الآن من فقدان المصريين للشعور بالأمان فى وطنهم بعد الثورة، بسبب ممارسة القلة ممن يطلقون على أنفسهم «الاسلاميون» لأعمال التمييز العنصرى ضد غالبية الشعب باسم الدين الإسلامى، وممارسة هذه القلة لاعمال العنف والاضطهاد، وهى ممارسات غريبة ودخيلة على الشعب المصرى لم نعرفها فى يوم من الأيام، لا فى عهد المخلوع ولا ما قبله، ممارسات دفعت الشباب الى سراديب اليأس والاحباط، حتى بات نصف الشباب يبحث عن فرصة للهجرة أو السفر للخارج بحثا عن الذات والأمان المفقود، والنصف الآخر يحاول نسيان نفسه بين جنبات الضياع فى أوكار الجريمة والادمان للانتقام لنفسه بنفسه ممن أضاعوا أحلامه وسرقوا ثورته، أو للانتقام من نفسه لأنه صدق أن هناك ثورة قامت، فقد كنا نعتقد بعد أن خرجنا للتحرير.. بعد سقوط شهدائنا على جوانب الثورة.. بعد أن سهرنا الليالى الباردة الطويلة نحرس البيوت والأعراض فى اللجان الشعبية، كنا نعتقد أن مصر توحدت.. تلاحمت، أصبحت نسيجا واحدا، تقاربت المسافات وانتهت الفجوات بين الطبقات، وإذا بالمشهد يتكرر، بل ينحدر الى ما هو أسوأ، لتحل الذكرى الثانية للثورة، وكأنها الذكرى السنوية لوفاة ميت. سألت أولادى ونحن نطالع اخبار مصر المتردية عبر الشاشة، والنداءات المتعددة بثورة ثانية لخلع الاخوان ولو بالدم، سألتهم: إذا ما اشتعلت ثورة ثانية وتحقق ما يتردد بأن الاخوان لن يرحلوا إلا بالدم هل نفكر فى العودة لهولندا، تبارى الاولاد فى قول كلمة قاطعة «لا سنموت هنا مع أصحابنا» ولم يفاجئنى الرد فلو قالوا غير ذلك لأنكرت أنهم من دمى، أبعث بجملة أولادى للرئيس.. للحكومة، للاخوان ومريديهم، لكل من يتربصون بذكرى الثورة لا دماءها من أجل تكريس وجودهم بالقوة وإرهاب الشعب، إذا خرج الشعب ليطالب برحيلكم.. ارحلوا، ارحلوا دون إراقة نقطة دماء واحدة، ارحلوا لأنكم أفسدتم المشهد.. شوهتم الثورة.. سرقتم الفرحة، وتنافستم على إزهاق أرواحنا، والهتكم نشوة السلطة ولعبة الكراسى عن رعاية ما وليتم لرعايته، فتركتم أولادنا يموتون فى القطارات وبين القضبان، يغرقون من أجل الهجرة على الشطآن، يقتلون تحت أسوار قصر الاتحادية، وضاع الأمان من شوارعنا، وانتشر الشر والتكفير والتخوين بين ربوعنا، ارحلوا فشباب مصر يستحق العيش فى أمان، يستحق ثمار الثورة، يستحق العدالة فى هذا الوطن الجميل، ارحلوا لأجل أولادنا وأولادكم، قبل أن تتحول الأجيال إلى أبناء الغضب والسخط والاحباط، الغضب لا يخلق الفرحة والسخط لا يدفع إلى الأمام والاحباط لا يعلى البنيان، ارحلوا ووفروا دعواتكم للجهاد وحماية الشرعية وفروها لحماية الوطن من أعدائه بالخارج، أو اذهبوا بجهادكم لتحرير القدس أما دم المصرى ونفسه وماله وعرضه حرام عليكم.. حرام. مشهد تركت الحفل الصاخب وصوت الهتاف، تركت دق الدفوف ورفرفة الرايات.. وهربت العروس تاركة خلفها الكاميرات والأضواء، والخيل المبارك وفرسان الظلام وأبطال الكلام، وأصحاب الديباجة والياقات والجلابيب البيض والعباءات السود، وصقور الحرب وحمائم السلام، ها هى مختبئة فى الحنايا فى حشايا الأزقة والحوارى، فى قلوب البسطاء والناس الطيبين، فى غرف المقابر التى ينازع فيها الأحياء سر البقاء مع الأموات، ها هى تنهنه القرآن ترتيلا والانجيل تبتيلا، تبكى.. ابكى.. ويبكى الحيارى حلم السنين، تذرف الدمع فى كفيها المخضبة بالحناء، دماء الشهداء، لتشهد العالم بأنها أنقى وأطهر ثورة فى العالم وفى كتب التاريخ، وسيدفع الثمن المرير كل من تآمروا على شرفها، وسرقوا الفرحة من مهدها ولفقوا تفاصيل عرسها.. عام مضى، وها هو الشعب يخرج اليوم للميادين ليبحث عنك يا هبة السماء، فلا يجد سوى السراب بدلا من ماء الرواء، فلا يزال الفساد يعشش فى الأرجاء.. أرجو ألا أكرر تلك الكلمات التى كتبتها فى 25 يناير الماضى.. الذكرى الأولى للثورة.