عاد الشعب المصري في يوم الاستفتاء على الدستور، ليعلن مرة أخرى أنه صاحب قرار خاص عميق لا يتقرر بناء على رأي أحد غيره هو. لا النخبة ولا الإعلام ولا الحكم. خرج الشعب المصري ليعلن مجددا أن كل محاولات إثارة العنف والبلطجة لتخويفه وكل هذا السيل الإعلامي المخوف والمهول من الدماء التي ستسيل ومثل تلك الدعوات المطالبة بالمقاطعة، لا تعنيه في شيء. هكذا وقع الشعب المصري في سجل التحضر والتحدي والقدرة على اتخاذ القرار الخاص العميق، تماما كما فعل خلال الاستفتاء الأول بعد الثورة وخلال الانتخابات البرلمانية، إذ هزم بالصفوف الطويلة من النساء وكبار السن قبل الشباب كل هؤلاء الذين خوفوه. هذا السلوك الغريب ليس جديدا. فمنذ بداية ثورة يناير والكل في حيرة من أمره بشأن ردود فعل الشعب المصري ومسلكه الجمعي في التعامل مع الأزمات، والمؤثرات التي تحدد هذا السلوك. إذ جاءت جميع قراراته وكأنها تأبى أن تكون متأثرة لا بالحملات الإعلامية ولا بالتحركات التي تقودها النخب السياسية، فحيث كانت هناك خطط إعلامية وسياسية تحرك وتضغط وتخوف، يفاجئ الشعب الجميع بقرار خاص به تماما. نستطيع أن نقول إن جوانب السلوك الجمعي التي أظهرها الشعب في ثورة يناير، لم يكن لنا أن نتعرف عليها على هذا النحو إلا من خلال حدث كبير كهذا، إلا أن كل ردود الأفعال التي يقوم بها الشعب المصري في كل ما سبق جاءت لافتة للغاية، وكذلك كل ما جرى بعد الثورة. يبدو الشعب المصري وكأنه مهموم ومنغمس في السعي وراء لقمة العيش لا يأبه بأي شيء آخر، حتى تحدث المثقفون عن حالة استسلام للحاكم، لكن الشعب سرعان ما كان يفاجئ الجميع في لحظة واحدة ودون سابق إنذار، بحراك واسع وغير محدود، لكنه محسوب بدقة! هذا ما عشته شخصيا في شوارع القاهرة، في رد فعل الشعب المصري بعد النكسة حين خرج الشعب يقول لعبد الناصر لا تتنحى، ولكن نفس هذا الشعب هو من خرج احتجاجا ورفضا لأحكام الطيران، التي كانت موجهة مباشرة ضد من تسببوا في وقوع النكسة. وهنا كان اللافت الأهم أن الشعب قدر خطواته بحسابات دقيقة لإدراكه أن البلاد تعيش في حالة حرب، وأن الاحتجاج والضغط لا يعني ولوج أعمال العنف والاضطراب التي تؤثر على عملية الاستعداد لتحرير الأرض. انتهت الأحداث في الحالتين ليعود كل مصري إلى حياته العملية في اليوم التالي وكأن لا شيء حدث. وحيث ثار الطلاب على السادات خلال مظاهرات عامي 72 و73، قرر الشعب أن تقف الأمور عند حد سلوك الطلاب وتعبيرهم عن رفض استمرار حالة اللاسلم واللاحرب، وكان حس الشعب راقيا ومحددا بدقة، وكأنه يعلم أن الحرب على الأبواب وأن المطلوب فقط هو توجيه إنذار للحاكم والمسؤولين، أو تهديد بإخراج كارت أحمر. وحين انتهت الحرب، ووعد السادات بالسير بسرعة لتحسين الأوضاع المعيشية وأسرف في الوعود وقتها، ثم عاد ليصدر قرارات زيادة الأسعار في 17 يناير 1977، أخرج الشعب الكارت الأحمر مرة أخرى. كنا نحن العاملين في الحقل السياسي نعقد دورة اجتماعات مكثفة في ذات اليوم نشكو جميعا من الإحباط الشديد لعدم صدور رد فعل شعبي ونتبارى في التنظير حول أسباب همود حركة الشعب، فإذا بمن يحضر لاهثا ليبلغنا أن المظاهرات اندلعت في الشوارع تهتف ضد زيادات الأسعار. خرج الكارت الأحمر واكتفى الشعب بذلك وجلس ينتظر استجابة الحاكم، وكان الشعب يقول إنه يدرك أن البلاد عاشت حالة الحرب ولذا يضغط ولا يقدم على ثورة، ويطلب أن تتوزع الأعباء على كل المجتمع لا على الفقراء فقط. وقد ظلت الأحداث تراوح مكانها في شد وجذب، حتى جاءت ثورة يناير بكل محاولات إخراجها عن سلميتها فكان الشعب أوعى من الجميع. قدم الشهداء بالمئات دون أن يرفع السلاح، وتكرر المشهد فلم يستجب لدعويين للعصيان المدني ولم ينجر للعنف والقتل وظل يقدم الشهداء من محمد محمود إلى مجلس الوزراء إلى بورسعيد إلى قصر الاتحادية، دون أن يرد إلا بالحشود الجماهيرية التي تثبت أنها السلاح الأقوى من كل سلاح. هذا شعب غريب حقا.. نقلا عن صحيفة الشرق القطرية