كانت الأوراق الصفراء تغادر أفرع الأشجار واحدة تلو الأخرى وتسلم نفسها لعبث الخريف ولفحاته الباردة، فتسقط على الأرض لتصنع كلمات للنهاية، نهاية فصل ومجىء آخر تماشيا مع حياة لا ديمومة فيها، كنت أسير شادرة حزينة وأصداء حادث أطفالنا الأليم فى أسيوط يتردد وجعا ودمعا فى أعصابى، حين رأيته وسط ركام الأشياء المبعثرة ككائن وحيد متحرك بين صناديق القمامة. يقلب فيها بيديه المعرقتين فى نشاط وهمة لا تتناسب مع عمره، وذلك بحثا عن شىء، اكتملت لدى الصورة الذهنية القاتمة بعبثية الحياة، قتامة لم تبددها اشعة الشمس الدافئة المتسللة عبر بقايا سحب الفجر وضبابة فى هذا الصباح الباكر، وحين هم بالمغادرة حاملا حملة ومتكئا على عصاه، وجدتنى مدفوعة لحواره. - جرجس دميان يوسف، خمسة وستين سنة وزيادة. - زى مانتى شايفة كده، ما عنديش شغل، وهو اللى زيى يشتغل إيه فى السن دى مش لما الشباب يلاقوا شغل أبقى ألاقى أنا، وهو مين يشغل راجل تعبان وكبير زيى. - بالقط عيشى بدل ما أشحت من خلق الله، أهو بادور على البلاستيك فى الزبالة، وألمه فى الشوالين دول، وأبيعهم لناس كده فى حلوان بحوالى عشرة جنيه أو خمستاشر، حسب ما ترزق، أهو كل يوم برزقه، ممكن يوم ما لقيش حاجة خالص وأروح لمراتى وجيبى فاضى. - أنا أصلا مش من هنا، أنا من الصعيد، كنت باشتغل مع عمال التراحيل، وكانوا بيجيبونى أنا وغيرى نشتغل فى تركيب السكة الحديد، وبعد ما يخلصوا الشغل يستغنوا عننا، يعنى كنت باشتغل مواسم مواسم، ولما كبرت كده ما بقيتش قادر أشتغل مع بتوع التراحيل، وقالولى ولادى نيجى مصر يمكن يكون الرزق أوسع، وأدينى جيت من كام سنة، والحال بقى أوحش من الأول، بس ما قدرش أرجع تانى الصعيد، هاعمل إيه هناك. - ولادى غلابة، أنا عندى ولدين وهم متجوزين وعايشين كده على قد حالهم، وما يقدروش يصرفوا عليا، دول يادوب بيلاقوا لقمتهم. - أنا مأجر أوضه وفسحة كده فى بدروم فى حلوان، والله بادفع لها ايجار 200 جنيه، وربنا العالم بأدبرهم إزاى، وأنا ليا كام شهر ما دفعتش ايجار، وكويس ان صاحب الشقة صابر عليا كتر خيره. - والله باجى مشى من حلوان لحد المعادى وصقر قريش، أجيب منين أجرة لميكروباص كل يوم، وكمان السواقين ما بيرضوش يركبونى معاهم عشان الشوال بتاعى ده، بيخافوا لأوسخ لهم العربية، عشان كده باتعكز على عصايتى وأخدها مشى رايح جاى، والله بامشى كل يوم نص نهار، وربنا وحده اللى بيقوينى عشان مراتى الغلبانة، دى صاحبة عيا وعندها سكر ومحتاجة علاج بقد كده كل شهر. - والله أنا زعلان قوى على الولاد الصغيرين دول اللى ماتو فى أسيوط، هى ليه كل حكومة بتتعامل معانا وكأننا مش بشر، هم المسؤلين وربنا هيحاسبهم ودم الولاد دول فى رقبتهم، شوفى حكمة ربنا، عيال زى الفل تموت، وواحد زيي عايش يقاسى ويتعذب مش لاقى اللقمة، يا ريتنى كنت مكانهم ولا يتحرق قلب أهاليهم عليهم، ربنا يصبرهم. - يحكمنا اخوان ولا غيرهم، مش مهم، المهم إن أى حكومة تحس بالناس الغلابة اللى زينا ويبطلوا كلام، ويساعدونا نلاقى لقمة نضيفة وعيشة زى البنى آدمين، الغلابة كتروا قوى. - نفسى فى المعاش ده اللى بيدوه للغلابة اللى زينا، أنا دخت عشان اخد المعاش، بس ما حدش ساعدنى ولا قالى أعمل إيه، حرام اتبهدل أنا ومراتى كده فى آخر أيامى، أنا رجليا ما بقتش شيلانى خلاص، ونفسى الحكومة تدينى شقة صغيرة رخيصة بدل البدروم اللى عايش فيه بمتين جنيه، وعنوانى حلون، كوزكه، آخر الاتوستراد، أى حد هيسأل على عم جرجس دميان يوسف هيدلوه عليا، وربنا الرزاق. - لا الحالة هديت شوية، البلطجة ما بقيتش زى الأول، الشهور اللى فاتت كان ولاد الحرام بيطلعوا عليا وأنا شايل الشوال، وياخدوه منى بعد ما تعب فى لم البلاستيك، وكمان ياخدوا منى أى فلوس معايا، وكنت باديهم كل حاجة عشان ما يقتلونيش، كانت أيام سودة، بس دلوقتى أفضل شوية الحمد لله وربنا يعدلها.